سَنَواتُ العَبَث في تونس
عبد اللطيف الفراتي*
لماذا لم تُصبِح تونس مثل سنغافورة بمعدَّلٍ للدخل الفردي في حدود 50 ألف دولار للفرد؟
لماذا بقيت تونس دولةً فقيرة، بمعدل للدخل الفردي لا يتجاوز 3,500 دولار، بل ازدادت فقرًا منذ 2011 وانحسر الدخل الفردي فيها بنسبة الثلث، وتكاد تلتحق بدول العالم الرابع، تلك التي لا أمل لها في الإقلاع يومًا من الأيام، ومغادرة كوكبة الدول المُتخلّفة، والمُمعِنة في التخلّف؟
كان الأمل في بداية السبعينيات الفائتة أن تقفزَ تونس بخطواتٍ إلى الأمام تؤهّلها لأن تكون من النمور لا من القطط.
كان ذلك محتوى حديثي المُتَكَرّر مع الوزير الأسبق التيجاني الشلي (وافته المنية في 3 كانون الثاني/يناير 2023) الذي أعتبره أب الصناعة التونسية، تماما ك”لودفيك إرهارد” في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
غير أن الشلي لم يجد المناخ الذي تَوَفَّرَ لوزير الاقتصاد الألماني الذي أيقظَ ألمانيا من كبوتها.
لم يفهم التونسيون، وخصوصًا المسؤولون منهم، طبيعة المرحلة، وأغرتهم نسبة نموٍّ استثنائية، كان أحد أسبابها لا جدية العمل وإنما فيضانات كبرى سنة 1969 وسنة 1972، وسنوات ممطرة لاحقة في وقتٍ كانت الفلاحة والصناعات الغذائية تُمثّلُ جُزءًا مُهمًّا جدًّا من الناتج الداخلي الخام.
فتمَّ الحدّ من التراكم الرأسمالي، الذي اعتُمِدَ في جنوب شرق آسيا كسوطٍ حَفّزَ الاستثمار، وبالتحديد الخاص منه.
وانطلقت في تونس مطلبية نقابية مفهومة، لكن غير مُبَرَّرة في وقتٍ مبكر، انتهت بأحداث 26 كانون الثاني/يناير 1978، وتعطّلت جهود الادخار الدافع الأول للاستثمار وبالتالي تنمية ثروة البلاد.
السنوات التالية لم تكن أفضل بكثير، فتمَّ تقسيمُ الكعكة قبل نضجها، وهو ما استمر في التسعينيات وسنوات الألفية الثانية، تجنّبًا للصدام مع مطامح، وإن كانت مشروعة فإنها لم تكن مبررة، اتسمت بقلّة الصبر بدعوى أنه لا يجب أن تُضحّي الأجيال الحالية من أجل رفاه الأجيال اللاحقة.
ومنذ بداية الثمانينيات نبه وزير المالية والتخطيط آنذاك إلى ضرورة الوقوف أمام جشع المؤسسات العمومية التي باتت هاوية سحيقة تلنهم نتاج الجهد الوطني وعرقه بدون أن تُوَفّرَ أرباحًا تدفعها للدولة مالكتها كما كان مُفتَرَضًا، ولا تدفع كذلك ضرائب أو مساهمات للتأمينات الاجتماعية، فازدادت الهوّة اتساعًا، واتسع الخرق على الراتق، وحلّقت سنغافورة عاليًا، بينما أخذت بلادنا في الانحدار تباعًا، لتصل مع حكم حركة “النهضة” على مدى العشرية الماضية إلى حافة الإفلاس، مع تعاظم المديونية الداخلية والخارجية، وانخرام كل المؤشرات التي باتت تومض باللون الأحمر. وإذ بلغ السيل الزبى، مع حكم قيس سعيد، الذي أشاعَ الأمل بعد 25 تموز/يوليو 2021 لدى الكثيرين، بأنه سيخلصهم من سوء التسيير الذي ساد منذ الثورة، وحكم حزب “النهضة”، فإذا بالأمور تزداد سوءًا، ولم يُدرك هؤلاء، ولا أولئك، أن حسن التدبير والسياسة لا يستقيمان إلّا برفع المستوى المعيشي للشعب، وليس النزول به.
ولقد جاءت للحقيقة فُرَصٌ فعلية لإنهاض تونس من كبوتها مع إسماعيل خليل في الثمانينيات، ومصطفى كمال النابلي في التسعينيات بمحاولة رفع نسب النمو إلى 7 في المئة، بما يحقق امتصاص البطالة وتشغيل قوى العمل الوافدة، ومع محمد الغنوشي وتوفيق بكار في العشرية الأولى مع إهلالة القرن الواحد والعشرين، ومع خسين الديماسي في أول حكومة منتخبة بعد الثورة، ولكن المعوقات كانت أكبر من إرادة هؤلاء ” المصلحين”، وتم خصوصًا في العشرية الأخيرة، تسريع خطوات الهدم، والابتعاد المُمَنهج عن حركة الإصلاح الحقيقية والنهضة الفعلية.
ولم يفهم الذين تولّوا الحكم، أنه على أهمية الحرية والديموقراطية، فإن الناس ينتظرون في المقدمة أن تتحسّنَ أحوالهم المعيشية، لا أن تتدهور، ولا أن تصبح العلامات الدالة في المسار هي الخصاصة والندرة، إلّا للبعض ممن أثروا وانتهزوا الفرص، ولا فائدة من الإشارة إليهم بالإصبع الطويلة.
وإلى عودة للاستنتاجات واقتراح الحلول في مقالٍ مقبل.
- عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي تونسي مُخضرم. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: fouratiab@gmail.com