“إنزال” غربي في بيروت!
محمّد قوّاص*
ليس تفصيلًا أن تصل جهات قانونية أوروبية للتحقيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومسؤولين مصرفيين في سياق قضايا معروضة على النظم القضائية في بلدانٍ أوروبية. وليس تفصيلًا أن تلك الوفود الآتية من بلدانٍ مختلفة تصل في مواعيد مُتقاربة يشي بقرار “إنزال” قضائي فوق الأراضي اللبنانية.
يُنقَلُ عن مصادر قضائية محلّية أن النائب العام التمييزي في لبنان، القاضي غسّان عويدات، تبلّغ أن الوفود القضائية ستأتي من فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وبريطانيا، وتصل إلى بيروت تباعًا ما بين 9 و20 كانون الثاني (يناير) المقبل. وستضم الوفود مُدَّعين عامين وقضاة ومُحقّقين وضباطًا من الشرطة وربما رؤساء محاكم. ووفق المصادر فإنه إضافةً للتحقيق مع حاكم المصرف المركزي وكبار المسؤولين فيه، فإن التحقيقات ستشمل أيضًا أصحاب ومديري عدد من المصارف اللبنانية.
لن نَدخُلَ في التفاصيل التقنية التي تُتيحُ لقانونيي الخارج أن يشتغلوا في ملفاتٍ هي من صلب اختصاص النظام القانوني اللبناني. فلا شكّ أن تخريجاتٍ قانونية مدروسة وفّرت لمُحقّقي أوروبا إبلاغ بيروت بالعزم على تنفيذ ذلك “الإنزال” وتقديم دفوعٍ شرعية لإنجاز المهمة. ولئن يُعتَبَر الحدث استثنائيًا وصادمًا ونادرًا يُلاقي مطالب أصحاب الودائع في لبنان بقضاءٍ دولي مُحايد عادل ونزيه، غير أن التطوّرَ جاء خاليًا من سياقات سياسية مُعلَنة ومن دون أعراضٍ مُبكّرة.
تتحدّث الأنباء عن أن التحقيقات الأوروبية المُتعدّدة الجنسيات ستتمحوَر حول مضمون الملفات القضائية الموجودة لدى هذه الدول، خصوصًا ما يتعلّق بالتحويلات المالية التي حصلت من لبنان إلى مصارف الدول المذكورة، وتحديد مصادر الأموال، ومدى ارتباطها بعمليات فسادٍ وتبييض أموال.
يَنقُلُ إعلامُ بيروت عن مصادر مَعنيةٍ في قصر العدل في بيروت أن ما يحصل يُشَكِّلُ سابقةً خطيرةً ومُخالَفة صريحة للقانون اللبناني غير متوافقة مع الأنظمة المرعية، كما يُشكّلُ تعدّيًا على “السيادة الوطنية”.
على هذا لن يقبل النظام المصرفي اللبناني هذا “الاجتياح” الأجنبي في بلدٍ ينقسم فيه أصحاب النفوذ بين الدفاع عن “المقاومة” و”السيادة”. ولئن يتدثّر المصرفيون بعباءة المقاومين والسياديين معًا، فإنهم، وإن بدأت آليات دفاعهم الذاتية تتحرّك للتصدّي لقضاءٍ أجنبي يتدخّل في شؤونٍ سيادية قضائية هي من اختصاص القانون اللبناني وحده، فإن دفاعاتٍ تالية، سياسية بامتياز، خارقة للطوائف والتيارات السياسية، قد تكشف عن مخالبها للدفاع عن “تراث” البلد المصرفي وتاريخه العريق.
والحال أن النظامَ المصرفي في لبنان كان دومًا، منذ تشكّل الكيان وحتى ما قبل استقلاله، جُزءٌ بنيوي من المنظومة السياسية للبلد، لا بل مُختَرِقًا لها ومُختَرِعًا لجُلّها. كما أن النظام المصرفي الذي اعتُبِرَ في عقودٍ غابرة أيقونة لبنان في الشرق الأوسط وواجهة من واجهات فرادة البلد وازدهاره، وقف وراء تمويلاتٍ مُلتبسة سواء لصالح المُتنفّذين وبارونات الحكم في البلد، أو لصالح هياكل عابرة للحدود تختلط داخلها أنشطة الفساد والميليشيا والتجارة السوداء.
ولئن عرف لبنان حروبه وصراعاته، لا سيما تلك الأهلية التي فتكت باللبنانيين طوال 15 عامًا ما بين 1975 حتى 1990، ثم عرف تعايش المنظومة السياسية مع سلطات وصاية دمشق حتى العام 2005 ووصاية طهران وحزبها مذّاك، فإن قوّة المال التي سيّرت أحوال التعايش المقيت مرّت بالشراكة مع منظومةٍ مصرفية عملت من دون رقيبٍ أو حسيب، مَحميّةً من قوى الأمر الواقع بنفوذها وعلاقاتها العابرة للحدود وسلاحها المشرّع في البيانات الحكومية.
وفق هذه الخريطة المعقّدة وجب فَهمُ حيثيّات “إنزال” قضائي أوروبي (حتى الآن) فوق الأراضي اللبنانية. ففتحُ ثغرة تحقيق داخل الجدار المصرفي اللبناني، ابتداءً من حاكمية مصرف لبنان إلى “حكام” المصارف في لبنان، يفتح ثغرةً خطيرة داخل جدار النظام السياسي اللبناني نفسه المتواطئ والمسؤول عن فضيحة القرن في اختفاء ودائع اللبنانيين، وتفريغ الثروة النقدية اللبنانية، وإيصال البلد إلى كارثة يصفها البنك الدولي بالأكبر عالميًا خلال هذا القرن.
لن تتأخّر مؤشّرات المقاومة السياسية من داخل لبنان لسابقةٍ خطيرة تمسّ “رؤوسًا حان قطافها”. ويتعلّق مستوى الاعتراض المُتَوَقَّع، بقدرة البلد، المُنهار اقتصاديًا والمحتاج إلى الدعم المالي الخارجي، على المعاندة وبما يمتلكه من أوراق قوة للقيام بذلك.
ولئن يَحسبُ الساسةُ جيدًا أخطار الرياح الآتية من عواصم كبرى، فإن القوى التي لا تلتقي في خيارات الحكم في لبنان في قلب نزاع طويل الأمد بشأن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ستتباين ردودها وتختلف مستويات حدّتها وفق قراءات ذاتية مختلفة للحدث وأبعاده. ثم إن أي خطط لتشييد سياجٍ سياسي يحمي “المَنهَبة” المعمول بها منذ عقود، ستأخذ جيدًا بعين الاعتبار أن وراء فرق التحقيق القضائية الأوروبية عواصم قد تشهر مخالب موجعة للدفاع عن نظامها القضائي ومهام قضاتها.
وإذا ما امتنعت كل القوى السياسية، بما في ذلك “حزب الله”، عن تأثيم النظام المصرفي وتبادلت التهم وتقاذفت الملامة في ما بينها بشأن أسباب الكارثة المالية وجذورها، وإذا ما جرى استهداف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وفق أجندات سياسية محلية تبرّعت أجندات سياسية مضادة لحمايته، فإن في “الإنزال” الأوروبي عبق بداية رفع الحصانة الدولية المزعومة عن “الحاكم” قبل أشهر من انتهاء ولايته، ما قد يفرض على لبنان مواصفات “دولية” للحاكم الجديد.
لكن الأدهى أن تمرير تحقيق دولي بشأن قطاع المصارف في لبنان سيُشكّل سابقة تُشرّعُ أبواب تحقيقات دولية تتعلق بملفاتٍ أخرى، وتدفع مياه غزيرة صوب طاحونة البطريرك بشارة الراعي الذي ما فتئ يطالب بالتدويل حلًّا للمعضلة اللبنانية.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)