هنري زغيب ناسك الجمال والكلمات

عبدالله نعمان*

(إلى صديقي الشاعر هنري زغيب عشية احتفاله بذكرى ميلاده الرابعة والسبعين في 9 كانون الأَول/ديسمبر)

هنري زغيب ظاهرة نادرة في أَدبنا العربي الحديث، ومرجع لافتٌ في كوكب الكتابة بين لبنان ومجمل كُتّاب المشرق.

كيف أَكتب عنه بتجرُّد وصفاء، ونحن منذ أَكثر من 60 عامًا، نسير معًا على درب الفكر والثقافة؟ إِنها مهمة صعبة في شتاء العمر حين يبدأُ حزْم الحقائب للرحيل، وأَصعب منها حصْرُ نصٍّ ببضع كلمات لاختصار هنري زغيب الكاتب الأَديب المتعدِّد والشغوف، المتنسِّك للكتابة كما لا مثيلَ له بين مَن أَعرف، المتشعِّب المواهب، المستعجل دائمًا والدقيق دائمًا، القارئ النَهِم، حامل شعلة المعرفة وزادُهُ ثقافة موسوعية، الكاتب الغزير ذي النتاج الوفير والمنوَّع، الشاعر الرقيق وعاشق الجمال الذي، توازيًا مع كلِّ ما لديه، يجد متَّسعًا لصياغة مئات المقالات والأَبحاث، والترجمات المتنوِّعة المواضيع، والنشْر في الصحف وفي البرامج الإِذاعية، والمشاركة في المحاضرات والندوات، وتنظيم المؤتمرات في لبنان والخارج… كي لا أُعدِّد أَكثر بعد.

لكأَنه وُلِدَ في صندوقة أَحرف المطبعة، وتعمَّدَ بحبر المعرفة، ونما مقتحمًا فضاءَ الكلمات والأَفكار والمفاهيم، يقولبُها وينحتها ببراعة نحاتٍ ودقَّة جواهري.

بلَغ السن المفترض أَنها للتقاعُد، لكنه لم يَقْعد ولم يتقعَّد ولم يتقاعَد ولم يُلْقِ الشعلة من يده. يستحيل عليه أَن يتوقف عن الكتابة، ربيبته وسيِّدته، رفيقته اليومية في جميع أَعماله وأَنشطته. لكأَنه يصحو صباحًا والقلم في يده، ولا ينام ليلًا إِلَّا على مخدَّة كتاب.

قبل سنواتٍ طويلة جاوز الستين، ومع ذلك واصل هنري نشاطه في حقل جديد: الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU فأَنشأَ فيها “مركز التراث اللبناني” سنة 2002 وأَصدر فيه سنة 2014 مجلة “مرايا التراث” الأَكاديمية الـمُحَكَّمة في ثلاث لُغات، ويرأَس تحريرها فيما يواصل عمله على التراث اللبناني برسوليَّة ناسكٍ يحرس المعبد: يدافع عن اللغة العربية، يَنشر التوعية على التراث، يُحاضر في حفظ التراث اللبناني باحثًا عن كُنُوزه المخبوءة، يَطبع كتبًا تراثية ويُعيد طباعة كتب قديمة ونافدة، يكرِّم أَعلام الفكر اللبناني، ويواصل كتاباته مع كل ذلك بوتيرة يومية لا تنقطع.

من حظنا معًا، هنري وأَنا، أَننا تلاقينا منذ مطلع عهد الفُتُوّة (1966) على مقعد الدراسة في معهد الرسل – جونيه، فجمعتْنا صداقة أَدبية وثقى منذ تلك الحقبة الباكرة ولا تزال رابطتَنا حتى اليوم. لكأَنها مصادفة قدَرٍ شاء، منذ ستين سنة، أَن نكون رفيقَين طوال العمر، وهو ما أُكرره دومًا باعتزاز عميق ومحبة له غالية. لماذا؟ “لأَنه هو ولأَنني أَنا” (كما يقول مونتاني Montaigne) وهذا ما ينهلّ إِلى البال عند الحديث عن صداقة نادرة تظلُّ مزهرة مع السنوات. وهي تمامًا كالصداقة التي جمعت مونتاني وإِتيانّ دو لا بويسي (Étienne de La Boétie) الذي بقي وفيًّا لصديقه الأَديب فكتب عنه عند وفاته: “إِن شاء القدَر، فتأَكَّدْ أَن الخلود سيحمل اسمَينا معًا كاتبَين صديقين إِلى الأَبد”.

وأَنا، تشبهني هذه العبارة فيما أَقول وفائي لصديقي هنري زغيب الذي يكرِّس حياته في خدمة الجمال والكلمات.

  • عبد الله نعمان هو أديب وكاتب لبناني مُقيم في باريس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى