مُفارَقَةُ دَور الدولة من لبنان الى العالم

الدكتور غسان الشلوق*

تُسَجَّلُ منذ فترةٍ إشكاليةٌ واضحةٌ ومُفارَقَةٌ كبيرة وتَناقُضٌ هائلٌ  في دور الدولة بين  المجتمع الدولي بغالبية دوله ولبنان.

وتتمثّل المفارقة والتناقض في تعاظم دور الدولة على المستوى العالمي في مقابل ما يشبه الانهيار لهذا الدور في لبنان.

ويقف عاملان رئيسيان وراء ما يحصل خارجًا في الدول المتقدّمة طبعًا وفي العديد من دول العالم الثالث ايضًا. العاملُ الأول يتمثّل في الانعكاسات السلبية الواسعة لجائحة “كوفيد 19” على المستوى الاقتصادي، وأبرز وجوهها التراجع الحاد في الإنتاج وبالتالي في مُعدّلات النمو وإقفالٍ واسعٍ للمؤسّسات أو تسجيل خسائر كبيرة في قسمٍ كبيرٍ من تلك التي استمرّت في العمل، إضافةً الى اتساع البطالة وحالات الفقر وانخفاض حجم التجارة العالمية…

أمّا العاملُ الثاني فقد نشأ عن الحرب الروسية-الأوكرانية والتي خلّفت نتائجَ كبرى على المستوى المعيشي خصوصًا من أبرز وجوهها الاضطراب الواسع في حلقة التموين لا سيما في مجالين رئبسبيين: المواد الغذائية والمحروقات، مما جعل مجتمعات عدة، في أوروبا خصوصًا وفي سواها، تواجه البرد أو نقصَ التغذية وارتفاعًا حادًا في الأسعار.

وقد دفع هذان العاملان الدول المختلفة في شتى أنحاء العالم إلى زيادة تدخلها في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية لمحاولة التخفيف من حدّة الأزمات المعيشية على المواطنين. وقد تُرجِمَ هذا التدخل بارتفاع حجم إنفاق القطاع العام وزيادة حصة الدولة في الناتج القومي وبالتالي زيادة العجز وتفاقم الدين العام. وأخذت هذه السياسة عمليًا وجوهًا عدة مختلفة منها تقديم مساعدات مالية وعينية للأُسر وتقديم دعمٍ استثنائي للمحروقات أو إلغاء أو خفض الرسوم والضرائب عليها، ودعم استثنائي أيضَا للبطالة الطارئة وللمؤسسات المُتعثّرة إضافة الى تغطية واسعة لمشاكل الصحة وغيرها الكثير.

وانعكس هذا التدخّل بوضوح في  المُحاسبة العمومية إذ ارتفعت حصة الدولة من الناتج القومي على مستوى الاقتصاد العالمي من 25.9% في 2008 إلى 34.1% في 2020، وهو ارتفاعٌ مستمر حتى الآن حسب تقديرات البنك الدولي[1]. وتَرافَقَ نموُّ دور الدولة بتدابير عدة لتعزيز الحوكمة والحد من انتشار الفساد الذي يستفيد عادة من زيادة النفقات العامة.

ويأتي هذا التطور في  وقتٍ كانت برزت فيه دعواتٌ متزايدة نظريًا أولًا ثم عمليًا للحدّ من دور الدولة وصولًا ربما إلى ما يمكن أن يكون “دولة الحد الادنى” في مذهب البعض. وأتت الأزمات الكبرى لتُذَكّر الجميع باستحالة إلغاء الدولة في المُطلق.

أمّا في لبنان فإنَّ الصورة تختلف تمامًا: شبه انهيارٍ للمؤسسات العامة من وجوهه الصارخة شبه إقفالٍ للإدارة العامة لأيامٍ عدة في الاسبوع ، تَعَطُّلُ القضاء، شبه توقّفٍ للجامعة الرسمية الوطنية، إنهيارُ سعر صرف العملة اللبنانية والأجور لا سيما في القطاع العام، إنهيارُ المؤسّسات الضامنة وبالتالي كل التغطيات الصحية والتعليمية، وارتفاعٌ قياسي في الاسعار بدءًا بالمحروقات حيث بات الحدّ الأدنى (الرسمي) للأجور أقل من سعر صفيحة بنزين في بلد لا نقلَ عامًا فيه. ويغيب وسط كل ذلك أي دور للسلطة، ويتفشّى الفساد على نطاق واسع.

وفي مقابل نمو ملفت لدور الدولة في الناتج القومي عالميًا تراجع هذا الدور بسرعة ووضوح في لبنان إذ انخفض من نحو 23% من الناتج في 2018 ونحو 27.5% في 2019 إلى نحو7-8% قي 2021، وربما إلى 4-5 % في 2022 حسب التقديرات الأولية (الرسمية) للنفقات العامة وللناتج. ونزلت النفقات العامة من نحو 14.5 مليار دولار إلى 1.02 مليار فقط في خلال ثلاث سنوات بينما  يستمر مجلس النواب غارقًا في فشل انتخاب رئيسٍ للجمهورية، ويمضي مع حكومةٍ مستقيلة في ما يشبه المراهقة التشريعية والتنفيذية  في التعامل مع مشاريع أساسية مطلوبة.

هذه المفارقة الكبرى حول دور الدولة في لبنان تعكس مع مؤشّراتٍ عدة أُخرى وبالتأكيد حالة مرضية لا يمكن معالجتها إلّا بخطواتٍ ذات طابع جذري تبدأ طبعًا بالجوانب السياسية ولا تنتهي إلّا بتغييرٍ واسعٍ يشملُ السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المُختلفة.

  • الدكتور غسّان ن. الشلوق هو أكاديمي لبناني وبروفسور في العلوم الاقتصادية.
  • [1]Erica BOSIO et Arturo GUTIERREZ, « Le Rôle croissant de l’Etat », ورقة عمل للبنك الدولي ،تشرين الثاني 2022

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى