هَيمَنَةُ الدولار الأميركي باقِيَةٌ حتى إشعارٍ آخر
كابي طبراني*
يَتعرّضُ الاقتصادُ العالمي لضربةٍ في هذه الأيام بسبب تداعيات الحروب والأمراض والمنافسة بين القوى العظمى. هذه أخبارٌ سيّئة للتجارة العالمية، بل ويتساءل البعض عمّا إذا كانت ستؤدي أيضًا إلى زعزعة ركيزة النظام المالي العالمي بشكلٍ كبير: وضع الدولار الأميركي باعتباره “العملة الاحتياطية” في العالم، ما يعني وضعه كعملةٍ تحتفظ بها الدول الأجنبية على نطاق واسع وتُستَخدَم في المعاملات المالية والتجارية الدولية.
في بدايات حرب روسيا ضد أوكرانيا، اعتقد البعض أن الطبيعة الشاملة للعقوبات الاقتصادية التي فُرِضَت بسرعة على روسيا لديها القدرة على تسريع تراجع وتدهور الدولار. ولأن العقوبات تفرضها الاقتصادات الغربية بشكلٍ أساسي وشبه حصري، فإن الخوفَ هو أنها قد تتسبّب في انقسامِ الاقتصاد العالمي. في الواقع، بعد عزلها عن النظام المالي والاقتصادي الغربي، سعت روسيا إلى منافذ اقتصادية بديلة، ولا سيما الصين، حيث حلّت العملة الصينية -اليوان- محل الدولار باعتبارها العملة الأكثر تداولًا في بورصة موسكو للعملات. وبالمثل، من خلال مراقبة قدرة الغرب على تسليح اعتماد روسيا بشكلٍ أساس على اقتصاداته، سعت دولٌ مثل الصين إلى الانفصال عن تلك الاقتصادات، حيث حاولت أيضًا إنشاء بدائل من الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية المُهَيمِنة والعملة التجارية.
لكن مثل هذه الجهود لا تُنذِرُ بغروبِ هَيمنة الدولار العالمية كوسيلةٍ للتبادل. بعيدًا من الانقسام الوشيك للنظام المالي العالمي إلى نظام الدولار ونظام غير قائم على الدولار، فمن المرجح أن يستمرَّ ما يُسمّى بهيمنة الدولار لبعض الوقت في المستقبل.
أوّلًا، الاتجاه المعروف ب”الهروب إلى الجودة” بين المُستثمرين يعني أن الأخبارَ السَيِّئة لنظامِ التجارة العالمي هي أخبارٌ جيدة تاريخيًا للدولار الأميركي. تُعتَبَرُ الديون الصادرة عن الحكومة الأميركية، في شكلِ سندات خزانة لمدة 90 يومًا، واحدة من الأصول المالية الأكثر تداولًا في العالم. سوقُها عالي السيولة، ما يجعلها وسيلة آمنة وثابتة للمُستثمرين لتخزين الأموال وتحقيق عوائد ثابتة عندما تنخفضُ قيمة الأصول المالية الأخرى. وهذا يجعلُ سندات الخزانة “ملاذًا آمنًا” للمال في أوقات الشدّة. على سبيل المثال، عندما أصبح انتشار جائحة “كوفيد 19” واضحًا في ربيع العام 2020 وتوقّفَ الاقتصادُ العالمي، تحوّلَ المُستَثمِرون إلى سندات الخزانة الأميركية. وشراء هذه السندات يتطلّب دولارات، ما يعني أن الطلبَ المتزايد عليها يُعزّزُ أيضًا الطلب على الدولار.
هل يُمكِنُ أن يظهرَ “ملاذٌ آمنٌ” بديل؟ ربما، ولكن من غير المرجّح في المدى القريب. إن سوق الديون للاقتصاد العالمي الكبير الآخر، الصين، ليست مفتوحة للمستثمرين الأجانب مثل الولايات المتحدة. هناك أيضًا مخاوف من أن النمو السريع الذي شهده الاقتصاد الصيني على مدى العقود القليلة الماضية قد يتعثّر أو حتى ينهار. علاوة على ذلك، هناك تصوّرٌ عام بأن الحكومة الصينية تفتقرُ إلى المصداقية عندما يتعلّقُ الأمر بالبيانات المالية والاقتصادية التي يَعتمدُ عليها المستثمرون في اتخاذ قراراتهم. وأخيرًا، فإن التحرّكات الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ لتوطيد السلطة بين يديه مع إعادة تأكيد سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على جميع جوانب المجتمع الصيني – بما في ذلك الاقتصاد – أخافت المستثمرين، الذين يخشون امتلاكَ أصولٍ في اقتصادٍ حيث أن سيادة القانون وحقوق المستثمرين يمكن أن تخضعان لأهواءِ فردٍ واحد.
هناك البديل القديم، الذهب، الذي تتجه إليه الحكومات أصلًا كملاذٍ آمن. لكن الذهب يُمثّلُ مشكلةً كحلٍّ طويلِ الأجل لأن المعروضَ منه محدود. إذا رغب المرء في رؤية الاقتصاد العالمي يواصل النمو، فإن الاعتماد على أصلٍ مالي محدود لن يساعد على ذلك. هذه أيضًا هي العقبة التي تَحُولُ دون تحوّلِ العملات المُشَفَّرة إلى ملاذٍ آمن بديل. بالإضافة إلى تقلّبها، والتي تُعَدُّ مِيزةً أكثر من كونها خلَلًا، فهي مُصَمَّمة لتكون محدودة التوافر.
ثانيًا، هناك حالةٌ من الجمود في النظام القائم على الدولار. نرى هذا في نظامِ مَقاصّةِ المدفوعات العالمي المعروف ب”سويفت” (SWIFT). تُهَيمِنُ المعاملات بالدولار على نظام “سويفت”، ومن السهلِ على الجهات المالية الاحتفاظ بها على هذا النحو. وكما كتبت أستاذة العلوم السياسية في جامعة “تورنتو”، كارلا نورلوف، عندما حظّرت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون لأول مرة وصول روسيا إلى نظام “سويفت”، أنه من غير المرجح أن تؤدي هذه الخطوة إلى تَحَوُّلِ دولٍ أخرى -أو حتى روسيا نفسها في المدى الطويل- نحو أنظمة بديلة، لأن “الأنظمة القائمة جميعها لديها مشاكل” أو لا تستطيع الوصول إلى المستوى المطلوب لتسهيل معظم المعاملات المالية العالمية.
يمكننا أيضًا أن نرى هذا الجمود في سوق النفط العالمية. أحد الأسباب الرئيسة الذي يجعل الدولار ذو قيمة على الصعيد العالمي هو أن منتجي النفط الرئيسيين –ما عدا روسيا الآن- يُسَعِّرون النفط باستخدام الدولار. وكما كتب الباحث السياسي والاقتصادي هنري ليو في مقال أساسي في العام 2002 في صحيفة “آسيان تايمز” المُتَوَقِّفة الآن، “تُعرَفُ هذه الظاهرة باسم هيمنة الدولار، والتي تمّ إنشاؤها من خلال خصوصيةٍ مبنيةٍ جيوسياسيًا مَفادُها أن السلع الأساسية، وعلى الأخص النفط، مُقَوَّمة بالدولار. الجميع يقبل الدولارات لأن الدولارات يمكنها شراء النفط”.
بدا أخيرًا أن مركز الدولار المُهَيمِن في هذه السوق مُهَدَّدٌ عندما أعلنت المملكة العربية السعودية، أكبر مُنتجٍ للنفط في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، في آذار (مارس) أنها تَبحثُ في بدائل لتسعير نفطها. إذا حدث ذلك، فسيتم بالفعل إسقاط أحد الأعمدة الرئيسة لهَيمَنة الدولار. لكن هذا التذمّر لم يُتَرجَم إلى عملٍ تنفيذي، على الأرجح لأن الرياض لا تزال تعتمدُ بشكلٍ كبير على الولايات المتحدة للحصول على الدعم العسكري في المنطقة.
ثالثًا، وربما من المفارقات، أن نقاطَ الضعفِ المُحتَمَلة للدولار تُسلِّطُ الضوءَ فقط على نقاط قوته. إذا فَقَدَ الدولار مكانته كعملةٍ احتياطية، فسيكون على الأرجح بسببِ شيءٍ تفعله واشنطن لتقويض مصداقية العملة الخضراء. قد يكون أحد هذه السيناريوهات هو قيام مجلس النواب أو مجلس الشيوخ اللذين من المتوقّع أن يسيطر عليهما الجمهوريون بإحداث تخلف للحكومة الأميركية عن السداد من خلال رفض رفع سقف الديون، وهو الحد الأقصى للمبلغ الذي يُسمح للحكومة الأميركية اقتراضه. في الوقت الحاضر، تدفع حكومة الولايات المتحدة كلًا من الفائدة وأصل الدين على ديونها الحالية إلى حدٍّ كبير من طريق إصدار دينٍ جديد، على غرار استخدام بطاقة ائتمان لسداد أخرى.
إذا تمَّ الوصولُ إلى سقف الدين ولم يتمّ رفعه، وهو ما يُمكن أن يحدثَ بحلول منتصف إلى أواخر العام 2023، فستضطر الحكومة الأميركية فعليًا إلى التوقف عن تمويل ديونها، الأمر الذي سيشير عندها إلى التخلّف عن السداد. قد يزعج هذا الأمر الأسواق، التي عادةً ما تنظر إلى سندات الخزانة الأميركية، كما ذكرنا أعلاه، على أنها أصولٌ آمنة. إذا لم تعد سندات الخزانة “آمنة”، فلن يكون الدولار كذلك. لكن تذكّر أنه ببساطة لا توجد بدائل قابلة للتطبيق من الدولار في النظام الدولي. لذا، حتى لو تخلّفت الحكومة الأميركية عن السداد، فقد لا يتأثر وضع الدولار، على الأقل في المدى القريب.
باختصار، سيظل الدولار هو العملة الاحتياطية المُهَيمنة في العالم. ربما أكثر من القوّة العسكرية أو المكانة الثقافية أو التأثير في المؤسسات الاقتصادية العالمية، فإن مكانة الدولار ترمز إلى الهيمنة العالمية للولايات المتحدة وتحقّقها. ربما يكون العصر الذهبي للعَولمة شارف على نهايته، لكن الوضع الذهبي للدولار لم ينتهِ بعد.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على: @GabyTabarani