الاستثناءُ البريطاني

محمّد قوّاص*

الملكة لا تَحكُم. هكذا كان حال إليزابيت الثانية خلال 70 عامًا. وهكذا هو حال وريثها تشارلز الثالث. وحين تَرحَل ملكة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال إيرلندا يصبح الحدث عالميًا ينشغل به الإعلام الدولي بالقدر نفسه لاهتمام الإعلام البريطاني وربما أكثر. فكيف يمكن فهم هذا العلاقة الخاصة للعالم ببريطانيا وملكتها؟

في السنوات الأخيرة اهتمت دول العالم، والعربية خصوصًا، ب”البريكست”. نَجَحَ استفتاءُ العام 2016 في إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. الأمر شكّل حالة انقسام داخل البلد، ذلك أن خيار الخروج فاز بنسبة ضئيلة وسط ذهول شريحة كبيرة من البريطانيين الذين لطالما اعتبروا أوروبية بريطانيا حالة نهائية. والأمرُ سبّبَ صدمة للاتحاد الأوروبي نفسه الذي خَبِرَ لأول مرة وجع طلاق أحد أعضائه وخروجه من النادي الأوروبي الكبير.

إستثناءٌ لطالما حظيت به بريطانيا داخل أوروبا. زحفت لندن نحو “الاتحاد” ثم تدلّلت ثم غادرت من دون أن تغلق الباب خلفها. وحين حدث ذلك كان الأمر جللًا بريطانيًّا – أوروبيًّا. لكنه بات حديث العالم أجمع.

خلال سنوات ذلك الطلاق بين اليابسة والجزيرة وحتى التوصل إلى الاتفاق بين لندن والاتحاد الأوربي في كانون الثاني (يناير) 2020 كان خبر ال”بريكست” من عناوين الأخبار الرئيسة في الإعلام الدولي. الفضائيات العربية انخرطت بقوّة وأحيانًا بإفراط في نقاش هذا التحوّل البريطاني ومحاولة إيجاد تداعيات له داخل العالم العربي أو في علاقات لندن مع عواصم المنطقة. فلماذا هذا الاستثناء لبريطانيا؟

لو أن ألمانيا أو فرنسا أو إسبانيا هي التي خرجت من الاتحاد الأوروبي أكان العالم سيهتم كاهتمامه بأمر الحدث لأنه بريطاني. وهل إعلام العرب كان ليفرط في تناول الحدث إلى هذه الدرجة لو أنه مُتعلّق ببلجيكا أو ايطاليا؟ وفي الأسئلة هذه محاولة لفهم علاقة العالم بالحدث الدراماتيكي البريطاني الجديد بغياب الملكة إليزابيت.

تعايشت إليزابيت المرأة مع مارغريت ثاتشر أول امرأة تُعيّن رئيسة للوزراء. لُقِّبَت الأخيرة بالمرأة الحديدية، فيما الملكة تسود البلد برهافة وجودها وقوّة ظلّها. حين غابت ثاتشر في العام 2013 كان رحيلًا كلاسيكًيا تقليديًا في طقوسه، وحين تغيب إليزابيت التي لم تكن تَحكُم ولا تتدخّل في حُكم البلد، ران بريطانيا حزن وحيرة تتدافع داخلها الأسئلة حول ما ينتظر البلد بعد أن غاب “صمام الأمان”.

ليس في الأمر مبالغة حين يتعلّق الأمر بالمشاعر. ومسألةُ أن إليزابيت كانت “صمّام أمان” فذلك ليس حقيقيًّا بالمعنى الدستوري والقانوني والسياسي. لا شيء في صلاحياتها يتيح لها شغل مهام إجرائية لتوفير ذلك “الأمان” لشعب بريطانيا. لا يهم فاللاوعي الجمعي يؤمن بالملكة ويثق بوجودها راعية للأمة صاحبة تعويذة الأمان. ذلك فقط ما يمكن أن يفسر زحف الناس نحو جدران قصر باكينغهام في لندن وهم يعرفون أن ملكتهم بعيدة في اسكتلندا.

كل جمهوريات الكوكب تساءلت يومًا لماذا الملكية في بريطانيا. البلد من أعرق الديموقراطيات، والحُكم فيه يجري من خلال صناديق الاقتراع والتداول على السلطة. فلماذا تبقى بريطانيا ملكية؟ الداخل البريطاني تعرّض للمؤسسة الملكية. تيارات وأحزاب وأفكار ومفكرين شنّوا الحملات على الملكية في بلدهم واعتبروها تقليعة متقادمة. حتى ليز تراس رئيسة الوزراء الجديدة أدلت في شبابها بدلوها الداعي لإلغاء الملكية. كلهم فشلوا وابتعدوا عن هذه الحكاية.

اللافت أن أمرَ ذلك الفشل لا يعود فقط إلى قوة الملكية وتجذّرها في وجدان هذا البلد. بل الأرجح أن مناعة هذه المؤسسة خلال السبعة عقود الأخيرة كان سببها إليزابيت. كانت تلك الملكة بالذات تحمل في شخصيتها وطباعها وما تمتلكه من كاريزما آسرة ما يجعلها قادرة على امتصاص الصدمات واستيعاب أمواج الإيديولوجيا المتناسلة من زمن الحرب الباردة وما تخصّب داخله من أفكار “ثورية”، لكنها أيضًا كانت قادرة على مُراعاة قواعد الحداثة والاتساق مع قيّم ليبرالية جريئة لطالما كانت نقيض التقاليد الملكية.

أمرُ إليزابيت يختلف عن أمر تشارلز. دولٌ كثيرة في عالم الكومنولث ارتضت “تاج” بريطانيا، لأنه تاج إليزابيت. تغيّرَ حامل التاج وقد لا ترتضي هذه الدول أن تبقى تحت التاج الملكي البريطاني حين يصعد عرش بريطانيا ملك آخر، حتى لو كان ذلك الوريث هو تشارلز الذي عرفوه وليًّا للعهد منذ عقود. ومصير المملكة المتحدة في عهد الملك الجديد يبقى مجهولًا مُربِكًا، ليس بسبب شخص الوريث فقط، بل بسبب تغيّر زمن تشارلز في هذه الأيام عن أزمنة إليزابيت منذ أن اعتلت في العام 1952 عرش البلاد.

العالم في حالة حروب مُعلَنة وأخرى قيد الإعلان. النظام الدولي يتفكّك أو يتخلّى عن قواعد الرتابة والثبات. بريطانيا تعيش أسئلة تكاد تكون وجودية. الهلع الاقتصادي. معدلات التضخّم الخطيرة. أزمة الطاقة غير المسبوقة. الوحدة الداخلية المهددة بسبب تصاعد الرياح الانفصالية في اسكتلندا وإيرلندا الشمالية. ناهيك من ظروف دراماتيكية في انتقال الحكم من بوريس جونسون إلى ليز تراس.. واللائحة تطول.

البلد يحتاج إلى طاقة مُوحِّدة إيجابية تُعيدُ بثّ روح جامعة تُبقي الأمة متآلفة. لعبت إليزابيت بجدارة هذا الدور، منذ طفولتها، وقبل أن تُتَوَّج ملكة. تشارلز يعرف دور والدته التي كانت “أم الأمة”، وهو لا شك في قرارة نفسه يطمح إلى إقناع الأمة بأنه الأب الضامن لأمان بلد كثرت فيه أسباب الخوف والقلق ويخشى زوال بَرَكة “الاستثناء”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى