هل الاقتصاد الروسي على حافة الهاوية؟

رُغمَ ادعاءات فلاديمير بوتين بأن بلاده لم تتأثّر بالعقوبات الغربية واقتصادها صامد فإن الواقع يفيدُ بغير ذلك حيث أن موسكو تكافح لتمويل استمرار حربها في أوكرانيا.

النفط الروسي: المنقذ الوحيد لفلاديمير بوتين حتى الآن.

كريس ميلر*

في نيسان (إبريل)، بعد أسابيع فقط من شنّ حربه على أوكرانيا، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الغرب لا يمكنه أبدًا خنق الاقتصاد الروسي. وابلُ العقوبات الأميركية والأوروبية لم ينجح ولن ينجح في إركاع بلاده على ركبتيها، على حد قوله. وقال لمسؤوليه: “يمكننا بالفعل أن نقول بثقة أن هذه السياسة تجاه روسيا قد فشلت. إن استراتيجية الحرب الخاطفة الاقتصادية قد فشلت”.

يمكن توقع مثل هذه المواقف الجريئة من بوتين وغيره من القادة الروس. لكن الآن، بعد ستة أشهر من بداية الحرب وفرض العقوبات، يتساءل العديد من المراقبين عما إذا كانت العقوبات الغربية قد أحدثت الآثار الصعبة التي وعد بها مهندسوها. قام المراقبون الدوليون، مثل صندوق النقد الدولي، بمراجعة توقعاتهم للناتج المحلي الإجمالي الروسي ورفعوا معدله عن أوائل هذا العام. مقارنة بالتوقعات الأوّلية التي أُعلِنَت بعد فرض العقوبات مباشرة، كان أداء الاقتصاد الروسي أفضل من المتوقع، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى صناعة السياسة الروسية التكنوقراطية الماهرة، وجُزئيًا بسبب أسواق الطاقة العالمية الضيّقة، التي أبقت أسعار النفط والغاز مرتفعة.

ومع ذلك، يجب وضع الأداء الاقتصادي لروسيا، الصامد إلى حدٍّ ما حتى الآن، في سياقه. لقد توقّعت قلّة من المراقبين وصنّاع السياسة أن تُسبّب العقوبات ألمًا كافيًا لإجبار روسيا على الخروج من الصراع في غضون أشهر، لذلك لا ينبغي أن يكون استمرار حرب روسيا مفاجأة. ولكن، لا يزال الاقتصاد الروسي يتضرّر ويكافح. فهو يُعاني من تباطؤٍ في النمو أكثر حدّة مما شوهد خلال الأزمة المالية لعام 2008، ومن غير المرجح أن يتبعه انتعاشٌ بعد الأزمة. يتم دعم مستويات المعيشة من خلال الإنفاق الاجتماعي الذي سيكون من الصعب استدامته، والذي من المحتمل أن يفرض قرارات صعبة بشأن موازنة الحكومة خلال العام المقبل. حتى الآن، وعد بوتين الروس بأنه يخوض “عملية عسكرية خاصة”، وليس حربًا يمكن أن تفرضَ تضحياتٍ جسيمة على السكان. لكن مع مرور الوقت، ستزداد تكلفة الحرب وآثار العقوبات على المواطنين الروس العاديين.

شدّ الأحزمة في روسيا

لفحص صحّة الاقتصاد الروسي، ينبغي البدء ببعض بيانات الاقتصاد الكلي. تقلّصَ الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنحو خمسة في المئة مُقارنةً بالعام الماضي، مع زيادة معدل التراجع كل شهر منذ بدء الحرب. إنخفضَ الإنتاج الصناعي، الذي يشمل صناعات النفط والغاز الروسية، بنحو 2 في المئة فقط مقارنة بالعام الماضي (انعكاسٌ لارتفاع أسعار الطاقة)، على الرغم من انخفاض قطاع التصنيع في الصناعة الروسية بنسبة 4.5 في المئة. كما بلغ معدل التضخم ما يزيد قليلًا عن 15 في المئة، منخفضًا إلى حدٍّ ما من الذروة التي بلغت 18 في المئة تقريبًا بعد تراجع الروبل في آذار (مارس) قبل أن يتعافى بعد فترة. ومع احتساب التضخّم، فقد انخفضت الأجور الشهرية بنحو ستة في المئة مقارنة بالعام الماضي. (أعرب بعض المحللين عن شكوكه بشأن البيانات الرسمية لروسيا، ولكن لا يوجد دليل على أن وكالة الإحصاء الحكومية متورطة في تلاعب على نطاق واسع).

قد لا تعكس إحصائيات التضخّم في روسيا حقيقة أن شراء مُنتجاتٍ مُعَيَّنة أصبح الآن صعبًا في بعض الأحيان (في حالة أجهزة آيفون/ iPhone) أو شبه مستحيل (في حالة سيارات لكزس). وبالمثل، تكافح بيانات التضخم لتحديد تأثير انخفاض الجودة. على سبيل المثال، تعمل الحكومة الروسية على تغيير القوانين للسماح ببيع السيارات بدون وسائد هوائية أو مكابح مانعة للانغلاق، والتي يصعب الآن إنتاجها بسبب مشاكل سلسلة التوريد التي تُسبّبها العقوبات. لن يظهر هذا التدهور في الجودة في بيانات التضخم، ولكن سيشعر به في النهاية الروس، وبخاصة أولئك الروس في المناطق الحضرية والأكثر ثراءً الذين يستهلكون المزيد من السلع المستوردة التي يصعب الوصول إليها الآن.

حتى عند حساب التضخم الذي سجلته الإحصاءات الحكومية، تتجه الأجور نحو انخفاضٍ حاد، أي أقل بنحو ستة في المئة مقارنة بالعام الماضي. لقد تآكلت مدفوعات الرعاية الاجتماعية مثل المعاشات، والتي تُعَدُّ مصدر الدخل الأساس لكبار السن من الروس، بسبب التضخم منذ بداية الحرب. زادت الحكومة مدفوعات المعاشات التقاعدية بأكثر من ثمانية في المئة في حزيران (يونيو) للتعويض، ولكن بدون زيادة الإنفاق الاجتماعي الباهظ في الأشهر المقبلة، سينخفض ​​الدخل الروسي المعتاد في النصف الثاني من العام. تشير حقيقة أن مبيعات التجزئة انخفضت بنسبة 10٪ تقريبًا إلى أن المستهلكين قد بدأوا بالفعل في الادّخار تحسّبًا لموازنات أكثر صرامة مقبلة.

النفط ما زال يتدفق

على الرغم من أن الأُسَرَ بدأت للتو الشعور بتأثيرِ انخفاض مستويات المعيشة، إلّا أن بعض الصناعات تضرّر بشدة بالفعل. بدلًا من النظر إلى بيانات الإنتاج الصناعي المُجَمَّعة، والتي تشمل المواد الخام وشركات التصنيع، من الأفضل تحليل كل قطاع على حدة. تأثّر قطاع المواد الخام بشكلٍ طفيف فقط، وهذا ليس مفاجئًا نظرًا إلى ارتفاع الأسعار وأن العقوبات الغربية مُصمَّمة للحفاظ على تدفق معظم السلع، بما في ذلك النفط، بحرية.

يُدين الاقتصاد الروسي بالكثير من مرونته إلى تجارته في الموارد الطبيعية. وبدعمٍ ديبلوماسي هادئ من الولايات المتحدة، خفّفت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات التي كان من المفترض أن تدخل حيّز التنفيذ ضد صادرات النفط الروسية في وقت لاحق من هذا العام. وللحفاظ على أسعار الطاقة وحمايتها من الارتفاع المفاجئ، تراجع الغرب عن بعض الجهود لمنع روسيا من إعادة توجيه صادرات النفط إلى عملاء آخرين، مثل الصين والهند. الآن، بموجب التعديلات الأخيرة على العقوبات، سيتم السماح للشركات الأوروبية بشحن النفط الروسي إلى أطراف ثالثة.

نظرًا إلى أن الغرب قد نفّذَ بعض العقوبات المهمة على صادرات النفط والغاز الروسية، ولأن حظر استيراد النفط الذي فرضه الاتحاد الأوروبي لم يدخل حيز التنفيذ حتى كانون الأول (ديسمبر)، فإن حجم صادرات النفط الروسية لم يتغير بشكل أساسي منذ فرض العقوبات. تجبر العقوبات الآن روسيا على بيع النفط بخصم يبلغ حوالي 20 دولارًا للبرميل على الأسعار القياسية العالمية. ومع ذلك، تشير أحدث البيانات الشهرية التي أصدرتها الحكومة الروسية بشأن عائداتها من فرض الضرائب على النفط إلى أن البلاد تجني من عائدات التصدير تقريبًا القدر نفسه من عائدات التصدير التي جنتها في كانون الثاني (يناير). على النقيض من ذلك، تراجعت عائدات تصدير الغاز الطبيعي–وهي أقل أهمية بكثير لروسيا من صادرات النفط– بعد أن قيّد الكرملين بيعه إلى أوروبا.

ويلاتٌ صناعية

على عكس صناعة الطاقة الروسية، تضرّر باقي القطاع الصناعي في روسيا بشدة. ومن بين القطاعات الأكثر تضرّرًا السيارات والشاحنات والقاطرات وكابلات الألياف الضوئية، حيث انخفض إنتاج كلٍّ منها بأكثر من النصف. في القطاعات الأخرى الأقل تعرّضًا للملكية الأجنبية أو سلاسل التوريد المُعقّدة ، مثل المنسوجات أو معالجة الأغذية، كان الإنتاج ثابتًا أو قد زاد في بعض الحالات مقارنة بالعام الماضي.

أحد أسباب هذا الاضطراب الصناعي هو انسحاب الشركات اليابانية والأميركية والأوروبية التي كانت لديها مصانع في روسيا. سيتم إعادة فتح بعض هذه المصانع تحت ملكية روسية جديدة، لكن تشغيلها بشكلٍ مستقل قد يكون صعبًا. يكافح المصنّعون أيضًا للحصول على المواد الضرورية. أصبح الوصول إلى المُكوّنات من الخارج أكثر صعوبة الآن، لأنه حتى المنتجات التي لا تخضع لقيود رسمية يصعب الوصول إليها وشحنها ودفع ثمنها. قال الرئيس التنفيذي لشركة “ترانسماش هولدينغ”، وهي شركة لمعدات السكك الحديدية ومقرها موسكو، لوسائل إعلام روسية، في إشارة إلى الصعوبات التي تواجهها شركته في الشحن ودفع ثمن المكونات المستوردة: “لا يمكنني القول إننا نواجه حصارًا تامًا. لكننا نواجه خلافًا متزايدًا”.

السؤال الرئيس خلال الأشهر المقبلة هو ما إذا كانت هذه الاضطرابات الصناعية ستتفاقم أم سيتم حلها. من ناحية أخرى، كان أمام روسيا الآن ما يقرب من نصف عام لإنشاء مدفوعات بديلة وشبكات لوجستية، والتي ينبغي أن تسمح لبعض الواردات المهمة غير الخاضعة للعقوبات الوصول إلى البلاد. من ناحية أخرى، أفادت الشركات الروسية عند مسحها إنها تواصل السحب من المخزونات الحالية، ما يعني أنها لا تزال تكافح من أجل الحصول على المكوّنات الضرورية. وتظهر البيانات الشهرية أن الواردات الروسية من السلع والمكوّنات الصناعية لا تزال أقل بكثير من مستويات ما قبل الحرب.

إن مصير القطاع الصناعي في روسيا مهمٌ لأسباب عدة. تُعدُّ الصناعة مصدرًا مهمًا للتوظيف، خصوصًا في ما تسميه روسيا “مونوغورودز” (monogorods)، أو المدن، غالبًا في جبال الأورال أو سيبيريا، التي تعتمد على مصنع أو صناعة واحدة. في الماضي، تسببت عمليات تسريح العمال في مثل هذه المدن في احتجاجات كبيرة واضطرابات اجتماعية أثبتت أنها مزعزعة للاستقرار السياسي. وقد وجدت الأبحاث التي أجراها أخيرًا مركز أبحاث روسي أن نصف جميع أنواع المدن ستواجه تأثيرًا سلبيًا مباشرًا بسبب العقوبات. ستكافح الحكومة الروسية للعثور على أموال لدعم الصناعات المحاصرة في ضوء الموازنة المشددة للحكومة.

أصبح تحليل الشؤون المالية للحكومة الروسية أكثر صعوبة الآن بعد أن توقف الكرملين عن الإفصاح عن تفاصيل حول الإنفاق، على الأرجح لإخفاء تكاليف الحرب. في نيسان (إبريل)، الشهر الأخير الذي أصدرت فيه روسيا بيانات مفصّلة، زاد الإنفاق الدفاعي بنسبة 40 في المئة على مدار العام. بالإضافة إلى الرواتب المرتفعة وتكاليف التشغيل لتمويل الهجوم على أوكرانيا، سيحتاج الكرملين أيضًا إلى تخصيص موارد مستقبلية كبيرة لإعادة بناء المخزون الهائل من المعدات التي تضرّرت أو دُمّرت في ساحات القتال الأوكرانية. تتزايد تكاليف الحرب، ليس فقط في الموازنة العمومية للحكومة المركزية ولكن أيضًا للحكومات الإقليمية، التي يُطلب منها جمع كتائب المتطوعين.

إن فورة الإنفاق هذه ستُحفّز الضغوط التضخمية خلال العام المقبل. الحكومة لا تجلب الكثير من العائدات كما كانت من قبل. لقد أدى الانخفاض المتواضع في أسعار النفط العالمية منذ حزيرن (يونيو) – بالإضافة إلى التخفيضات الكبيرة التي يجب أن تبيع بها روسيا نفطها الآن – إلى انخفاض عائدات ضرائب النفط الروسية إلى مستويات طبيعية أكثر مقارنة بالعائدات الوفيرة التي كانت تحققها في الأشهر الأولى بعد الغزو. ومع ذلك، فقد انخفضت الإيرادات الضريبية غير النفطية بشكل كبير. ومع احتساب التضخم، خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2022، انخفضت الإيرادات غير النفطية بنحو 15 في المئة، وهو رقم من المحتمل أن يرتفع أكثر خلال الفترة المتبقية من العام.

نتيجة لذلك، تتجه موازنة روسيا نحو عجزٍ كبير إذا استمرت الاتجاهات الحالية. يمكن أن يتغيّرَ هذا الوضع في الأشهر المقبلة، لا سيما إذا ارتفعت أسعار النفط – وبالتالي عائدات الضرائب. ومع ذلك، من غير المرجح أن تختفي مطالب الإنفاق طالما استمرت الحرب وتدهورت مستويات المعيشة.

إذا زاد حجم عجز الموازنة، سيجد الكرملين نفسه في وضعٍ مُعقّد.  لقد دخل الحرب بالكاد بأيّ ديون، لكن العقوبات الغربية حالت دون قدرته على إصدار سندات جديدة لمعظم المستثمرين الأجانب. يمكن أن يسمح للروبل بالانخفاض مقابل الدولار، والذي سيكون له تأثير في المساعدة على تحقيق التوازن في الموازنة، لأن الإنفاق الحكومي الروسي كله مُقوَّم بالروبل. لكن الركود في الروبل من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع التضخم، وانخفاض مستويات المعيشة وتقويض رواية الكرملين بأن العقوبات لا تعمل وأن الاقتصاد الروسي مستقر.

تصاعد التكاليف

بمعنى ما، فإن الكرملين مُحِقٌ في إصراره على أن الاقتصاد الروسي مستقر. بنوكه قادرة على سداد ديونها، ومعظم الصناعات تعمل كالمعتاد، ويواصل قطاع الطاقة الحيوي ضخ النفط. يوجد الكثير من الطعام على رفوف المتاجر، حتى لو كان هناك نقصٌ في السيارات الفاخرة. سيكون إنتاج السيارات والغسالات أقل بكثير مما كان متوقعًا، لذلك سيؤجل المستهلكون عمليات الشراء الكبيرة إذا استطاعوا. السيناريو المتفائل للكرملين هو أن يشدَّ الروس أحزمتهم لاجتياز المرحلة.

ومع ذلك، تتزايد تكاليف الحرب والعقوبات، حتى لو كان التأثير الأولي أقل دراماتيكية مما كان يأمله الغرب أو تخشاه روسيا. في الوقت الحالي، يبدو قادة روسيا سعداء بتجاوزهم ستة أشهر من العقوبات الغربية. ولكن، ستواصل الصناعة الروسية، خلال العام المقبل، الكفاح من أجل التكيف مع عالم خالٍ من المكونات الغربية المستوردة. باستثناء ارتفاع أسعار النفط، ستواجه الحكومة الروسية مقايضات أكثر صرامة بين الإنفاق الاجتماعي المستمر وتحمّل عجز الموازنة والتضخم المرتفع. لن ينهار الاقتصاد الروسي بطريقة تفرض وقف جهود الكرملين الحربية. ومع ذلك، تواجه البلاد ركودًا حادًا، وسحقًا طويلًا من مستويات المعيشة المنخفضة، وأمل ضئيل في انتعاش سريع.

  • كريس ميلر هو أستاذ مشارك في كلية فليتشر في جامعة تافتس، وزميل جين كيركباتريك زائر في معهد أميركان إنتربرايز، ومؤلف كتاب “Chip War: The Fight for the World’s Most Critical Technology.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى