سوزانَّا والشيخان (2)

لورنزو لوتُّو

هنري زغيب*

في الحلقة الأُولى من هذه السلسلة الجديدة، مهَّدتُ لقصة “سوزانا والشيخان” كما وَرَدَت في “سفْر دانيال” (الإِصحاح 13-الآيات 1 إِلى 64)، من “الكتاب المقدس/العهد القديم”، عن عروس جميلة اشتهاها شيخان متصابيان كانا قاضيَين في المدينة (بابل)، ففاجآها وهي تستحمّ. وإِذ صدَّتْهما اتهماها بخيانة زوجها يواكيم مع عشيق سرّيّ. قبل مثولها للموت أَنقَذَها الشاب دانيال إِذ كشَف كَذِب الشيخَين.

هذه القصة تناولها رسامون كثيرون، خصوصًا من عصر النهضة الإِيطالية، أَختار منهم لهذه الحلقة الرسام الإِيطالي لورنزو لوتُّو (1480-1557) أَحد روَّاد النهضة في القرن السادس عشر.

لورنزو وريشتُه

اشتهر لورنزو فنانًا تشكيليًّا ورسَّامًا هندسيًّا. انطبع رسمه بمدرسة مدينته الأُم البندقية، مع أَنه قضى معظم حياته خارجها، في مدن أُخرى إِيطالية شمالية. وهو رسم لوحات دينية كثيرة بمواضيعها وأَشخاصها، من العهدَين القديم (الكتاب المقدَّس) والجديد (الإِنجيل). اشتهر في أَزهى فترة من زمن النهضة، متأَثِّرًا بالتيارَين الفلورنسي والروماني (وهذا الأَخير تأَثَّرت به إِيطاليا في مطلع القرن السادس عشر حتى بدايات الفترة الباروكية).

بين أَبرز روائعه الخالدة: لوحتُه الزيتية “سوزانا والشيخان”. أَنجزها سنة 1517، بقياس 66 x50 سنتم، وهي اليوم في صدارة متحف أُوفيتسي Uffizi في فلورنسا (افتُتح بناؤُه رسميًّا كمتحف سنة 1865). وتاريخ اللوحة يشير إِلى أَنه رسمها إبَّان إِقامته (بين 1514 و1525) في مدينة بِرغامو Bergamo (شمالي شرقي ميلانو، في منطقة لومبارديا). ويرجح الخبراء أنه وضعها بتكليف من أحدهم.

أَوسع من القصة

لم يقتصر لورنزو في لوحته على “الحدث” (مأْخوذًا من “سفْر دانيال” أَي فيما سوزانا تستحمّ) بل وسَّع اللوحة إِلى مساحة أَبعد، خصوصًا في قسمها الأَعلى، وفَصَلَه عن مقدمة اللوحة بحائط سميك تخيَّله مرتفعًا.

توقيت اللوحة

جعل لوتو توقيت اللوحة حين خلَعت سوزانا ثيابها استعدادًا للاستحمام، ففاجأَها الشيخان من الباب الخلفي للحمَّام، ووراءَهما خادمان مهمتُهُما التصديق على ما سيقوله الشيخان زورًا في اتهامها بالخيانة الزوجية. والكتابة فوق سوزانا والشيخين تُظهر بعض الحوار، وهي طريقة قديمة لعلَّها مطْلب الشخص الذي أَوصى لوتُّو على وضع اللوحة، إِكمالًا لإِظهار العبرة الأَخلاقية من الموضوع.

في العبارة فوق سوزانا قولُها: “أُفضِّل الموت على الوقوع في الخطيئة”، وفي العبارة فوق أَحد الشيخَين مخاطبًا الخادمَين قولُه: “سوف تشهدان أَننا رأَيناها مع شاب، لما رآنا فرَّ خارجًا”.

ثمثال فينوس جاثية قبل الاستحمام

تفصيل اللوحة

القسم الأَعلى من اللوحة منظر عام للحديقة الواسعة، وفي جوارها يسارًا قصرُ يواكيم زوج سوزانَّا. وتبدو امرأَة تدخل الحديقة فيما تخرج منها خادمتا سوزانَّا بناء على طلبها ذهابَهُما إِلى البيت وجلب الدهون المعطَّرة لهنا بعد الحمام (تمامًا كما جاء في القصة).

وأَظهر لوتُّو وضعية سوزانا شبه عارية، جاثيةً على ركبة واحدة تُخفي بيسراها نهدَيها، وبيمناها تصُدُّ الشيخَين المتحرِّشَيْن. وهذه الوضعية تأَثَّر بها لوتُّو ناقلًا تمثال “فينوس الجاثية في وضعية الاستحمام”، وهو تمثال يوناني قديم من القرن الثالث قبل الميلاد تظهر فيه فينوس جاثية على ركبة واحدة وتُخفي بذراعها نهديها، مذعورةَ من شخص فاجَأَها وهي تستحمّ.

شواهد ملابس العصر

ورمى لوتُّو من اللوحة إِظهار الفضيلة والعدالة، ورسم فيها ثياب سوزانا مرميةً ملونةً على الأَرض وسط بقعة من النور الواضح والظلّ الشفَّاف، وفي رسمها هكذا وثيقةٌ ساطعة عن شكل الأَزياء الإِيطالية الفاخرة للثياب النسوية في القرن السادس عشر. فالقميص الأَبيض الداخلي اللصيق بالجسد يبدو هنا فوق القميص الأَصفر بارزًا من الثوب الأَحمر الخارجي. وأَبعد قليلًا من المرأَة، قطَعٌ أخرى من مكمِّلات لباسها وبينها حذاؤُها.

وبذلك جمَعَ لوتُّو في لوحته أَكثر من عنصر، أَمينًا لأَصل القصة كما وردَت في “سفْر دانيال”، مضيفًا إِليها معالِمَ وعلامات تبقى اليوم شاهدة على البيئة الشخصية (فرديًا) والاجتماعية (جماعيًا) في القرن السادس عشر.

رحلة اللوحة

لم تظهر اللوحة في كتُب الدليل الفني إِلَّا في مطلع الربع الثاني من القرن العشرين، حين ورَدَ ذكرُها في “مجموعة بِنْسون الفنية” Benson (على اسم جامعتها نيتي لي بنسون: 1905 -1993) قبلًا في لندن واليوم لدى جامعة تكساس في أُوستن. وكان اشتراها من ورثة بنسون هاوي جمع التحف جوزف دوفين Duveen (1854-1919). بعدذاك آلَت إِلى هاوي جمع اللوحات والاتِّجار بها الكونت أَلسّندرو كونتيني بوناكوسّي (1878-1955) اشتراها بمبلغ 750 مليون ليرا إِيطالية. ومن مجموعته انتقلت إِلى متحف أَوفيتسي وما زالت هناك.

الحلقة المقبلة: “سوزانا والشيخان” بريشة أَرتيميسا جينْتيليسْكي

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى