حِوارٌ صحافيّ مع جبران قبل 95 سنة (3 من 3)
هنري زغيب*
في الحلقتَين الأُوْلَيَيْن من هذه الثلاثية عرضْتُ للحوار الذي أَجرتْه الصحافية الأَميركية غلاديس بايكر مع جبران سنة 1927، حول كتابه “النبي” كيف ولماذا وضعه حتى صدر سنة 1923. ومرَّ في تينك الحلقتين ماذا رأت الصحافية في محترف جبران، وما كان لها من حوار معه في لحظات مؤَثِّرة.
في هذه الحلقة الأَخيرة بقية ما دار في تلك الجلسة، وإطلالة على كتاب جديد كان يُعدُّه جبران” “يسوع ابن الإنسان” (صدر لاحقًا سنة 1928).
طبيعته الخجولة المتواضعة
“لاحظتُ، بما لا تصفه الكلمات، تواضُعَه الجَمّ عند حديثه عن شعور قرَّاء كتابه حياله. وبدا لي أَنَّ تواضع هذا الرجل الكبير يسكُنُه تلقائيًّا حتى بات طبيعة لديه. وأَظنُّ هذا التواضعَ، في روحه وفكره، طبيعةٌ رئيسَة مكتسَبة لدى كل شرقيّ. فهو يُربكُهُ المديح، وأَيُّ كلمة تقدير إِيَّاه تجعله يهزُّ رأْسه خجلًا ويمد يده كي يُوقِفَ المادح عن إِكمال. أَما وهو في منشغلٌ في عمله، فقد يبدو بغير ذلك، لقناعته أَن عمله مقدَّس ويولَد من اتصالٍ مع لامرئي ليس يراه سواه. وهو يفضل بالأَحرى أَن يتحدَّث عن أَصدقائه، كما حدّثني عن صديقه الفيلسوف الهندي كْريشْنامورْتي أَو صديقه المؤَلف الموسيقي الفرنسي كلود دُبوسِّي، أَو بعض من رسم وجوههم في محترفه. وقد يفضل أَن يحدِّثَ جُلَّاسه وضيوفَه عن الحقائق الروحانية الكبرى التي تفتح الذهن أَكثر صوب ما يسمِّيه “المدى اللانهائي”.
رسمُه كما شعرُه: همسُ كمانٍ صامت
وخليل جبران ليس فقط شاعرًا شرقيًّا تدخلُ كلماتُه في الوعي كما همسُ كمانٍ صامت، بل هو نقَلَ هذه الميزة إِلى رُسُومه كذلك. وأَعمالُهُ عُرضَت في صالات أُوروبية كبرى، وطلبَت الرسوم الأَصلية لكتاب “النبي” مؤَسساتٌ أَميركيةٌ كبرى (منها مثلًا متحف المتروبوليتان في نيويورك) لوضعها مع مجموعاتها الدائمة.
ولَفَتَني في أَعماله أَنه يَرسم بقلم الرصاص العادي، رأَيت عددًا منه في العُلَب وعلى طاولته. وليس لخِدَع الحداثة البرّاقة أَيُّ فضل في نشر أَعماله، بل هي تلك السِمة الأَثيرية التي توشِّح جميع أَعماله الإِبداعية كما تطبع نشاطه الشخصي. لذا من المستحيل وضْعُ أَعمالٍ مشابهةٍ رسومَ “النبي”.
مشروع كتاب جديد: “ابن الإِنسان”
وخليل جبران يعمل حاليًا على كتاب جديد ستُصدره منشورات كنوف في الخريف المقبل. سيكون عنوانه “ابن الإِنسان”، وهو عن حياة يسوع. وسيكون في أُسلوب “النبي”، بما يمكن أَن نسمِّيه النثر الغنائي (الليريكيّ). وفي هذا الكتاب سيروي المؤَلِّف حياة “المعلم” بلسان 100 شخص ممن عرفوه. قرأَ لي مقاطعَ من المخطوطة الأَصلية، فإِذا فيها أَعذب نُصُوص سمعتُها في حياتي. يبدو لي أَن هذا الشاعر من لبنان مرصودٌ أَن يُنَصِّعَ نصُّه هكذا جميعَ النصوص عن حياة يسوع، فيتميَّز كثيرًا عن لائحة الكتب الطويلة التي تراكمت عن يسوع عبر العصور. ذلك أَن جبران مُشْبع بروحانية البلاد التي عاش فيها الناصري وأَلقى تعاليمه في أَرجائها.
قال لي جبران:
- المكانُ الذي وُلِدْتُ فيه، قريبٌ من الناصرة قُربَ مدينة نيويورك من مدينة هارتفورد (في ولاية نيويورك).
من هنا إِذًا قرباه الجغرافية (نحو 280 كلم)، ومعرفتُه الأَساطير والتقاليد في تلك المنطقة التاريخية العظمى. ولوضع كتابه، وهو قام بأبحاث شخصية عن حياة شعب البلاد التي خلَّدها حضورُ المعلم فيها.
كتاب مغاير عن كل ما قبْله
في هذه الصيغة الجديدة من كتابة حياة المسيح، لم يحاول المؤَلف وضْعَ أَيِّ ترجمة جديدة، ولا الرجوعَ إِلى كُتَّاب سيرة المسيح السابقين، بل سيكون كتابُه سلسلة صُوَرٍ بالكلمات، مرسومةٍ بعباراتٍ رشيقة ثاقبة، إِنما موشَّحة بجماليات روحانية. والرسوم التي ستصدُر في هذا الكتاب ستكون كذلك ذات توشيحات روحانية، وسيضمُّ رسمَين لوجه “المعلِّم” يدعُوان تلقائيًّا إِلى جوّ العبادة. وسيوشِّح كامل الكتاب جمعٌ نادر وذكيّ بين الغنى والبساطة، عبْر نص يذوب فيه جبران كما شمعة. وسيجد قارئُه مناخًا من ذهب وفضة معًا، تجمع بيننا بساطةُ فلَّاحين يكْدَحون وسْط الحقول والكروم في لبنان. وأَمام هذا الجمال في التعابير والأَقوال، سيُؤْخَذ القارئ بالمضمون على حقيقته وبساطته”.
***
هكذا ختمَت الصحافية حديثها ومقالها، مأْخوذة بشخصية جبران، بقدْرِما كانت مأْخوذةً بكتابه “النبي”، وبكتابه الآخَر الذي كان يُعدُّهُ وقتئِذٍ: “يسوع ابن الإِنسان”.
ولمن لا يعرفون هذا الكتاب، أَو لم يقرأُوه، أُورد هنا مقطعًا من آخر فصل فيه.
كتاب “يسوع ابن الإنسان”
مقطع من الفصل الأَخير: “شهادة رجل من لبنان بعد تسعة عشر قرنًا”.
“يا معلم، أَيها الشاعرُ المعلِّم، يا سيِّد رغباتنا المكتومة: قلبُ العالم يخفقُ في نبضات قلبكَ، لكنه لا يحترق مع أُغنيتك بل يجلس مصغيًا إِلى صوتك في متعة هادئة، ولا يغادر جلستَه كي يقيسَ تجاعيدَ تلالك. والإِنسان يحلم حلمكَ طويلًا، ولا يريد أَن يصحو مع الفجر الذي هو أَعظم من حلمك. يريد أَن يرى برؤْياك إِنما لا يريد أَن يجُرَّ إِلى عرشكَ قدمَيه المثْقَلَتَين. كثيرون بَلَغُوا عروشهم على اسمك، وتوَّجهُم الناس بقُوَّتِك، وحوَّلوا زيارتهم الذهبية إِليك تاجًا لرُؤُوسهم وصولجانًا لأَيديهم.
يا سيِّد النور الذي عيناه تسكنان أَصابعَ العميان الرائية، ما زلتَ بيننا موضعَ استهزاء، رجلًا أَضعفَ من أَن تكون إِلهًا، وإِلهًا في إنسان دُون أَن يُعبد. وكلُّ ما يقدمه البشر من قداديس وأَناشيد وأَسرار وذبائح، ليس إِلَّا لخدمة ذاتهم السجينة. وحدَكَ أَنت ذاتُهم النائية، وصراخُهم البعيد، وشغفُهم المنتظَر. ولكن، يا سيِّد، يا ذا القلب السماوي، يا فارس أَحلامِنا الحقيقية، ما زلتَ إِلى اليوم ماثلًا أَمامنا، لا تلجُمُ خطواتِكَ سهامٌ ولا حراب، فأَنت تتنقَّل بين جميع سهامنا، تَبْسمُ لنا من عليائك. ومع أَنك أَصغرَنا، نرى إِليك أَبانا جميعًا.
أَيها الشاعر، يا المرنِّمُ ذو القلب الكبير، ليُبارِكِ اسمَك الإِلهُ، ولْتتباركِ الرحمُ التي حبِلَت بك، وليتبارك الثديان اللذان أَرضعاك. ولْيَغفِر لنا الإِله جميعًا”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.