نِهايَةُ النموذَج التونسي

هل ماتت الديموقراطية في تونس، أم أنها قد تولد من جديد؟ سؤالٌ يطرحه التونسيون غداة التصويت على الدستور الجديد الذي يعيد جميع السلطات إلى رئيس الجمهورية.

الاستفتاء على الدستور: لم يجذب أكثر من 30 في المئة من المؤهّلين للتصويت.

سارة يِركِس*

قبل سنة، واجهت الديموقراطية الوليدة في تونس –التي كانت الصامدة الوحيدة بعد سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي في العام 2011– اختبارًا قاسيًا بعد الانقلاب الذاتي الاستثنائي الذي قام به الرئيس قيس سعيّد في 25 تموز (يوليو) 2021. في غضون ساعات، أقال سعيّد رئيس الوزراء التونسي، وعلّق البرلمان المُنتَخَب ديموقراطيا لمدة 30 يومًا، وتولّى كل السلطات التنفيذية. برّر سعيد أفعاله بالاستشهاد بالمادة 80 من دستور تونس لعام 2014، والتي تسمح للرئيس اتخاذ “أي إجراءات تقتضيها الظروف الاستثنائية” إذا رأى أن البلاد تواجه “خطرًا وشيكًا”.

لكن ما تم وصفه في البداية بأنه إجراءٌ طارئ مؤقت تم تمديده الآن إلى أجلٍ غير مُسمّى. في 25 تموز (يوليو) 2022، وافق التونسيون على استفتاء دستوري يُقنّن بشكل فعّال انتزاع سعيّد للسلطة في القانون التونسي. يبدو أنَّ ما يُسمّى بالنموذج التونسي للتحوّل الديموقراطي صار على أبواب الموت الآن. تبذل المعارضة التونسية وقادة المجتمع المدني جهودًا بطولية لإحيائه، لكنهم سيحتاجون إلى دعمٍ عاجل ومُستدام من المجتمع الدولي إذا أرادوا النجاح.

تفكيك الديموقراطية

في الأشهر التي أعقبت استيلاءه على السلطة في تموز (يوليو) الفائت، دمّر سعيِّد بشكلٍ منهجي المؤسّسات الديموقراطية المُتبقّية في تونس، إما من طريق تعليقها تمامًا أو استبدال أعضائها بموالين. في 22 أيلول (سبتمبر) 2021، في إشارة صريحة بشكلٍ مذهل لنوايا الرئيس بعيدة المدى، أصدر المرسوم رقم 117، الذي نقل صلاحيات البرلمان إلى الرئاسة والسماح بالحكم الرئاسي بمرسوم في جميع الأمور. في الوقت نفسه، في خطوة غريبة بشكل خاص لأستاذ قانون دستوري سابق، علّق سعيّد معظم الدستور التونسي لعام 2014، مُقرّرًا بأن دور الحكومة هو خدمة الرئيس.

في إطار جهوده لإسكات خصومه، عرّض سعيّد مئات الصحافيين والنشطاء والسياسيين المعارضين للاعتقالات التعسفية وحظّر السفر والهجمات الكلامية اللاذعة. في كانون الأول (ديسمبر) 2021، اتّهمت الحكومة منصف المرزوقي، أول رئيس منتخب ديموقراطيًا في تونس وأحد منتقدي سعيّد، بتقويض أمن الدولة، وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة أربع سنوات غيابيًا.

في شباط (فبراير) 2022، حلَّ سعيّد المجلس الأعلى للقضاء في تونس، واستبدل أعضاءه بموالين له، وعزّز سلطته بإقالة قضاة – وهي سلطة مارسها في 1 حزيران (يونيو) لإقالة حوالي 57 قاضيًا، اتهمهم بعرقلة قضايا الإرهاب، والانخراط في الفساد، وارتكاب  “جرائم أخلاقية” مثل الزنا وحضور “حفلات كحول”.

ولكن، كان الانقلاب الكبير لسعيّد عندما أعاد كتابة الدستور، ليؤتي ثمار رؤيته الطويلة المدى لنظامٍ رئاسي قوي مع هيئة تشريعية محايدة. قامت لجنة سعيّد المختارة بعناية بصياغة دستورٍ جديد في غضون أسبوعين. في تحوّل غريب للأحداث، أدان رئيس لجنة صياغة الدستور، صادق بلعيد، علانية النسخة التي نشرها سعيّد للجمهور، بحجة أنها لا تعكس رؤية اللجنة ويمكن أن تقود تونس إلى طريق الاستبداد. وبينما مرّ الاستفتاء بنسبة 95 في المئة من الأصوات، فإن مشاركة 30 في المئة فقط من الناخبين التونسيين المؤهّلين تُشيرُ إلى أن العديد من أنصار سعيّد فقدوا الثقة به.

بلدٌ في أزمة

نجح سعيّد في انتزاع السلطة في تموز (يوليو) 2021 لأنه كان قادرًا على الاستفادة من ثلاث أزمات مترابطة. أوّلًا، وصلت جائحة كوفيد-19 إلى ذروتها في تونس في الصيف الماضي، وكشفت عن نقاط الضعف في نظام الرعاية الصحية الهشّ في البلاد وإخفاق حكومتها في تقديم المساعدة التي تمسّ الحاجة إليها. ثانيًا، تضرّر الاقتصاد التونسي، مثله مثل معظم الاقتصادات العالمية، جرّاء الوباء، الذي أدّى في حالته إلى تفاقم البطالة المرتفعة أصلًا، وأهلك صناعة السياحة التي كانت مزدهرة سابقًا، ودفع بالعديد من التونسيين إلى الفقر. ثالثًا، أصبح النظام السياسي شديد الانقسام مشلولًا، مع تصاعد الاستقطاب بسرعة. هاجم السياسيون بعضهم بعنف في قاعات البرلمان، وقد أهان سعيّد وهشام المشيشي، رئيس وزرائه المختار بعناية، أحدهما الآخر بشكل روتيني على التلفزيون الوطني. كان سعيّد مستاءً من قرار المشيشي العمل مع حزب النهضة الإسلامي وتجادل مع المشيشي للسيطرة على وزارة الداخلية.

في هذا السياق، من السهل معرفة سبب استعداد العديد من التونسيين لمنح سعيّد الثقة في حينه. يائسين ومُحبَطين من حكومةٍ غير كفؤة، وضع التونسيون أملهم في رئيس يبدو، على غرار العديد من القادة الشعبويين الآخرين في جميع أنحاء العالم، مستعدًا لتولّي زمام الأمور وهزّ نظام راكد وفاسد. لكن مع ظهور نوايا سعيّد وتفاقم الوضع الاقتصادي، بدأ الدعم الشعبي لسعيِّد يتلاشى.

برّر سعيّد تصرّفاته على أساس أنه يفعل ما يريده الناس. لكن طوال العام الماضي، فشل سعيد في استشارة الناس. إن عملية التشاور التي قام بها عبر الإنترنت، والتي كانت تهدف ظاهريًا إلى جمع المدخلات العامة حول مسودة الدستور، شابتها مخاوف أمنية وصعوبات فنية؛ أقل من سبعة في المئة من الناخبين المؤهلين انتهى بهم الأمر بالمشاركة فيها. ولا يوجد دليل على أن نتائج تلك العملية ساهمت في المسودة التي صوّت عليها التونسيون في أواخر تموز (يوليو). نادرًا ما خاطب سعيّد ووزراؤه الجمهور أو سمحوا لوسائل الإعلام المستقلة باستجوابهم. وقد ألهمت أفعاله الاستبدادية المتزايدة العديد من الاحتجاجات حيث سئم التونسيون من عدم قدرة سعيّد على تحقيق تحسّن اقتصادي أو استقرار سياسي.

يتجلّى تراجع الدعم لسعيّد في الإقبال الضئيل للناخبين على الاستفتاء على دستور جديد – يمكن القول إنه التصويت الأكثر أهمية منذ انتفاضات 2011. يعود جُزءٌ من سبب المشاركة المنخفضة إلى أن غالبية جماعات المعارضة السياسية والمجتمع المدني اختارت مقاطعة التصويت بدلًا من المشاركة في ما اعتبروه عملية غير شرعية. لكن العامل الآخر هو أن سعيّد لم يعد قادرًا على حشد مؤيديه. في حين كان هناك تدفّقٌ مستمر من الاحتجاجات المؤيدة لسعيّد إلى جانب الحركات المُناهضة لسعيّد، لم تجمع الاحتجاجات الموالية أخيرًا لسعيد عددًا كبيرًا من المُؤيدين.

التونسيون غير مُقَيَّدين

حقّق التحوّل الديموقراطي في تونس نجاحًا نسبيًا في عقده الأول. ومع ذلك، فإن أحداث العام الماضي تُسلط الضوء على هشاشة مثل هذه التحوّلات. وكما جادلتُ في “فورين أفّيرز” الأميركية و”أسواق العرب” العربية بعد انتخاب سعيّد مباشرة، في العام 2019، استفادت الديموقراطية التونسية من القادة السياسيين الذين وضعوا بلادهم فوق أي اعتبار شخصي، مع جولاتٍ مُتعَدّدة إختار فيها القادة طريق التوافق على المنافسة.

سمح هذا الإجماع لتونس بالتغلّب على التحديات المُعقّدة، لكنه أوقف أيضًا نمو المنافسة السياسية، وفتح في نهاية المطاف الباب للاستقطاب الذي مهّد طريق سعيّد إلى الاستبداد. لكن برنامج سعيّد السياسي، الذي يُرسّخ السلطة بالكامل بالرئيس ويُدمّر نموذج الإجماع، ليس هو الحلّ. بدلًا، يجب على تونس التوفيق بين الإجماع والتشاور والديموقراطية التشاركية، مع إفساح المجال للمعارضة. يمكن لمثل هذا البرنامج أن يبني الثقة في الحكومة التي افتقرت إليها إلى حدٍّ كبير في تونس قبل انتخاب سعيّد بفترة طويلة.

ليس من الواضح إلى أين ينوي سعيّد أخذ تونس بعد ذلك. ما هو واضح هو أن النموذج الديموقراطي الذي تم إنشاؤه في العام 2014 لن يتم إحياؤه. وصلت ثقة الجمهور في البرلمان إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق قبل انقلاب سعيّد، ولا يطالب الجمهور التونسي بعودة الاستقطاب والتشهير.

سؤالٌ مفتوحٌ آخر هو ما إذا كان المجتمع الدولي سيعود إلى العمل كالمعتاد بمجرّد دخول دستور سعيّد الجديد حيّز التنفيذ. في أعقاب استيلاء سعيّد الاستبدادي على السلطة، اقترحت إدارة بايدن قطع المساعدة الأميركية لتونس إلى النصف –ما يشير صراحةً إلى استيائها من تصرّفات سعيد. على الرغم من أن ردود الغرب على الاستفتاء كانت دافئة بالكاد، إلّا إذا اتخذ سعيد خطوات أخرى لعكس الحريات التي حاربتها تونس بشق الأنفس، فمن غير المرجح أن يتخذ العالم الديموقراطي إجراءات للتخلص من التراجع الذي قاده سعيد منذ 25 تموز (يوليو) 2021.

على مدى العقد الماضي، تم الإعلان مرارًا وتكرارًا عن تونس باعتبارها منارة الديموقراطية في العالم العربي. ومع ذلك، لم يتم تقديم الدرجة نفسها من الدعم المالي والديبلوماسي الذي تمتّعت به الديموقراطيات الشابة الأخرى. وبدلًا، تعاظمت الأزمة الاقتصادية المتنامية في تونس والوضع السياسي المتدهور بفعل الصراعات التي لا تعد ولا تحصى حول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. في حين أن خطة مارشال لتونس ربما لن تستطيع إنقاذ المرحلة الانتقالية للبلاد، كان من الممكن أن يساعد الدعم المالي الأكبر التونسيين على تحمل الآثار الجانبية المؤلمة للإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتحقيق نمو مستدام طويل الأجل. واليوم، تحتاج الجهات الفاعلة في المجتمع المدني التونسي وشخصيات المعارضة السياسية إلى الدعم الخطابي والمالي من المجتمع الدولي لتشجيعهم وتعزيز جهودهم في جرّ تونس إلى المسار الديموقراطي.

أخذ سعيّد العديد من الصفحات من كتاب قواعد اللعبة للديكتاتور لتقويض التقدّم الديموقراطي لعقد من الزمان في عام واحد. لكن في حين أنه ربما يكون قد عزز قبضته على السياسة التونسية، يجب أن يتذكّر الدرس الأول من النموذج التونسي: إن الشعب التونسي، عندما يكون مُوَحّدًا، لديه القوة للمطالبة بالتغيير وإسقاط الطاغية.

  • سارة يركيس هي زميلة أولى في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى