مُقتَدى الصَدر: العَودَةُ إلى ما قبل السياسة
محمّد قوّاص*
بَعدَ غَزوِ العراق في العام 2003، وإسقاط النظام السياسي السابق، راجَت عبارة “العملية السياسية” التي بَدَت وكأنّها خارجةٌ من قاموسِ العراقيين وتُراثِهم العتيق. لم يَعرِف العراقيون “السياسة” في عهد حكم حزب “البعث” إلّا وفق أدبياتٍ تَصدُرُ عن القيادتَين، القومية والقطرية، ومواقف رئيس البلاد. صحيح أن صراعاتٍ جرت داخل الحزب، وبين الحزبِ وأحزابٍ أخرى، وصحيح أن صدامًا حصل بين نظامٍ ومُعارَضة، لكن تلك التمارين لم ترقَ إلى مستوى أن يكون للسياسة “عملية” تقوم وفقها.
والمُسَلّم به أنه جرى تلفيقُ عمليةٍ سياسية ارتجلها الحاكم الأميركي بول بريمر، قبل أن تُصبِحَ أكثر جدّية، بالاستناد إلى دستور وقانون، تنهلُ شرعياتها من الانتخابات وما تُخرجه صناديق الاقتراع.
ومع ذلك، وبعدما أدلت العملية السياسية بدلوها منذ رحيل نظام صدام حسين، فإن في العراق من باتَ يُجاهِرُ بالحنين يأسًا إلى النظام السابق لاعنًا هراء العملية السياسية وأوحالها، ومن بات، بالمقابل، وبسبب تتالي الفشل وما أفضى إليه من انهيار، يُحذّر، جدّيًا أو تهويلًا شعبويًا، من عودة حزب “البعث” إلى السلطة.
عرف مقتدى الصدر تجربة العيش في ظل “البعث” وتجربة ما بعده. والرجل، الذي لطالما اتهم النظام السابق بقتل والده محمد صادق الصدر في العام 1999، لا يزال يُحذّر من عودة هذا الحزب إذا ما بقي حالُ البلد وسياسييه على ما هو عليه.
وقد لا يكون مُقنِعًا الحديث عن عودة حزبٍ صار من أدواتِ زمنٍ بائدٍ وعدّته، لكن التهويل بالـ”بعث” لا يزال في عراق اليوم احتمالًا مُرعِبًا لا يُحذّر منه الصدر فقط فيُهدّدُ به مُريديه وخصومه، بل لطالما لجأت أحزاب العملية السياسية إلى اتهامِ أيِّ اعتراضٍ بشبهات “بعث”. غير أن الصدر، وفق مُقرَّبين، يستنتج هذه الأيام من سعي خصومه الى اغتياله سياسيًا وإنكار تفوّق مكانته السياسية (البرلمانية خصوصًا)، أعراض استدراج “بعث” ما للإطلالة من جديد.
والحال أن زعيم التيار الصدري ينهل نفوذه وقوّته وشعبيته مما راكمه وعائلته من حكاياتٍ مُتناسِلة من “زمن البعث”. والأرجح أن الرجلَ تعرّف قسرًا إلى “العملية السياسية” وهو، الذي في منطقِ النقيضِ لنظامٍ بائدٍ دفعَ دمًا ضريبةً لمُعارضته، كان يجد نفسه والحالة التي يُمثّلها بديلًا بديهيًا من “بعثٍ” مُنقَرِض. وعلى هذا فإن مساراتَه المُتَرَدِّدة داخل العملية السياسية كانت نزقة تُشبه خيار “مُكرَه أخاك لا بطل”، بحيث يجد نفسه مُنسَجِمًا مع ذاته حين يكون خارجها.
مُقتدى الصدر رجلُ الدين الشيعي هو سليلُ عائلةٍ خرّجت أسماءً كُبرى في الدين والفقه والاجتهاد. ومن هذه الحاضنة الأصيلة اندفع الرجل لإظهارِ واجهاتٍ وطنية عابرة للطوائف مُتَبَرِّئًا من عَصَبِيّاتٍ ارتكبها تياره أو بقية الأحزاب الشيعية الدينية.
يَمتلِكُ الصدر ملَكَة هائلة لتحريك الشارع على نحوٍ لا تستطيعه زعامات عراقية أخرى. ولا يُنافِسُ ولاءُ مُريديه المُفرط له إلّا (ربما) ولاء قسم من الأكراد لمسعود بارزاني وعائلته شمال البلاد. ووفق هذه الحقيقة يستنتج الصدر أن “العملية السياسية” لا تعترف له بذلك.
استطاع الصدر، من موقعه الشعبي ومن خطابه الشعبوي، نَسجَ علاقاتٍ امتدّت إلى خارج حدود البلد. فتحت له العواصم العربية الأبواب مُعتَرِفَةً بأنه حالةٌ خاصة ورقمٌ صعب. ولئن تنقّل للإقامة في إيران والتعريج على ضاحية بيروت حيث قيادة “حزب الله”، إلّا أن تعاطيه مع الأمر الواقع الإيراني بقي عصيًّا على التفسير ويصعب فك شيفرته. وعلى هذا تعاملت معه طهران على نحوٍ خاص يختلف عن سلوكها مع القادة الشيعة في البلد.
لم تكن استقالة نواب التيار الصدري (73 نائبًا) من البرلمان العراقي تهديدًا أو ابتزازًا أو مناورة سياسية. فَهِمَ رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ذلك جيدًا، بحيث أن قبوله السريع للاستقالة “على مضض”، وفق تغريدته، بدا أنه جاء تنفيذًا لأمرِ عملياتٍ صدري لمغادرة العملية السياسية.
وإذا ما قادت انتفاضة الشارع التشريني (2019) إلى إجراءِ انتخاباتٍ تشريعية مُبكِرة منذ 8 أشهر، فإن الصدر يستنتج أن الانتخابات التي ابتكرتها العملية السياسية أنتجت بنجاحٍ كبير فسادًا ومُحاصَصة وانهيارًا اقتصاديًا، لكنها سبيلٌ فاشلٌ لانتشال البلد من محنه، حتى لو تمّ حلّ البرلمان الحالي والذهاب إلى انتخاباتٍ جديدة.
قد يُعَوِّلُ خصومُ الصدر، لا سيما داخل “الإطار التنسيقي”، على انتفاخ حصصهم البرلمانية على حساب الصدريين المُستقيلين. بعضهم لا يجد في “حرد” الصدر إلّا تفصيلًا عابرًا ستلتهمه العملية السياسية كما التهمت بالتلفيق والتدبير تفاصيل أخرى، كما أنها “فرصة العمر” للتخلّص من خصمٍ كبير.
بَيدَ أن الصدرَ خارج “العملية” يُخيفُ أكثر مَن هم داخلها. ويَهُمُّ “الإطار” ومن خلفه طهران أن يكون الصدر شريكًا “مُدَجَّنًا” يُراعي مصالح إيران. فخروج الصدر من المشهد البرلماني يَشي بالعودة إلى مشهدٍ آخر خارج عمليةٍ سياسية لم يحبّها الصدر ولم يأنس لدهاليزها. والمسألة قد تعني العودة الى الشارع بمعناه الواسع المُتعدّد الأجيال العابر للتقسيمات البليدة، وقد تعني أيضاً أن انهيار “العملية” يؤشّر إلى انهيار السياسة برمّتها وانتهاجِ خياراتٍ بديلة.
العواصمُ البعيدة والقريبة مَعنيّةٌ جدًا بقرار الصدر ومراقبة مزاجه. التيار الصدري ليس هيكلًا سياسيًا تقليديًا، بل كتلة سياسية اجتماعية تتحرّك بدقّة وفق مزاج زعيمها في الكرّ والفرّ وتؤمن بشكلٍ قدسي بحدْسه. وهذه السمات الشخصانية هي بذاتها نقيض أي مؤسسة أو قواعد يشعر الصدر أن “العملية السياسية” تفرضها عليه وتحاصره ولا تعترف بزعامته وخصوصيتها.
يصعبُ الجَزمُ بالخيارات الحاسمة لمقتدى الصدر. في علاقة العراق المُتَشَعّبة مع الجوار كما في علاقة العراقيين المُعقّدة مع مكوّناتهم. ومع أن الرجل يبدو مُتَعَدِّدًا مُتناقِضًا مُتَحَوِّلًا مُتَقَلِّبًا، دَعَمَ تحرّكات “تشرين” ثم وقف ضدها، فإنه في كلِّ ذلك منسجم مع طبائعه.
يكتشف الصدر عراقه في مقت “البعث” وكره خصومه. أعطته الصناديق فرصة لحكم العراق الذي يريد. أما وأن الأمر صار عسيرًا، فلا بأس من مغادرة “السياسة” ورجسها والعودة إلى ما قبلها في بديهياتها وانفعالاتها التي لا تُلازِمُ “عملية” ولا تَلتَزِمُ بها.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).