الإختلالُ الوظيفي للنَفطِ العراقي

لا يزالُ العراق الذي يُعتَبَر سادس أكبر منتج للنفط في العالم يُعاني من نقصِ الوقود وانقطاع التيار الكهربائي.

حرق الغاز الطبيعي الناتج عن استخراج النفط هو من بين أسوَإِ العوامل المُسَبِّبة للتلوّث في العراق

مينا العُرَيبي*

مع احتفالِ العراق، في هذا الشهر، بمرور 19 عامًا على الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وسقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، لم تتحوَّل البلاد إلى ديموقراطية مُستَقرّة ومُزدَهرة كما وعدت واشنطن وحلفاؤها وأَمَلَ العراقيون. الميليشيات تجوب البلاد، والفسادُ مُنتَشر، والخدمات الأساسية ما زالت مفقودة، والسياسيون في البلاد غير قادرين على تشكيل حكومة رُغمَ مرورِ ستة أشهر على الانتخابات الوطنية الأخيرة.

لكن لا شيء يرمز إلى الخلل الوظيفي في العراق أفضل من الحقيقة السخيفة المُتمثّلة في أن سادس أكبر مُنتِجٍ للنفط في العالم لا يزال يُعاني من نقص الوقود وانقطاع التيار الكهربائي فيما يكافح لتزويد سكانه بالوقود والكهرباء.

في المتوسط، تحصل الأسرة في بغداد على ست ساعات من الكهرباء يوميًا من الشبكة الوطنية. أولئك الذين يستطيعون تحمّل التكاليف يدفعون لمُقدِّمي مولّدات الكهرباء الخاصة لتغطية النقص. بالنسبة إلى ملايين الأشخاص الذين لا يستطيعون تحمّل الأسعار الباهظة، يُمكن أن تنقطع الكهرباء لساعاتٍ متواصلة يوميًا. بالإضافة إلى المُعاناة اليومية بدون كهرباء، يتأثر جُزءٌ كبير من النشاط الاقتصادي في العراق. لا يمكن للشركات أن تزدهر عندما تكون مصادر الكهرباء غير موثوقة.

بينما يُسارِعُ السياسيون العراقيون إلى الإشارة إلى أن الطلبَ على الطاقة في البلاد قد تضاعف أكثر من أربعة أضعاف في العقدين الماضيين، فإن الحقيقةَ هي أن العراق سيكون قادرًا على إنتاج ما يكفي من الكهرباء لتلبية هذا الطلب إذا تم وضع التخطيط الكافي وإزالة الفساد. يُشيرُ الخبراء إلى الخسائر في النقل وتوزيع الكهرباء في العراق بأنها من بين الأسوَإِ في العالم – وهي مسألة يمكن حلها من خلال الاستثمار والحَوكمة الفعّالة في القطاع.

علاوة على ذلك، تُعَدُّ المولّداتُ الكهربائية الخاصة مَصدرَ دخلٍ لبعض الجماعات المُتشدّدة ورجال الأعمال المؤثّرين الذين يعملون غالبًا وراء الكواليس لتعطيل توفير الكهرباء. وتستهدف الجماعات المتطرفة قطاع الكهرباء بانتظام. في العام 2014، استولى مقاتلو “الدولة الإسلامية” على محطة كهرباء مدينة بيجي ودمروها، وتقع على بعد حوالي 150 ميلًا شمال بغداد. اليوم، بعد سبع سنوات من تحرير بيجي من سيطرة “الدولة الإسلامية”، لم تبدأ إعادة بناء المصنع بعد، على الرغم من الموافقة الحكومية للبدء بالمشروع- وهذا دليلٌ آخر على العديد من المشاكل المُتعلّقة بالحكم في العراق. في كانون الأول (ديسمبر) 2020، أعلنت لجنة برلمانية أن 81 مليار دولار أنفقت على القطاع في السنوات الـ15 الماضية، مع القليل لتُظهره مقابل هذا المبلغ.

الكهرباءُ هي مُجرَّد بُعدٍ واحدٍ من معضلةِ الطاقة المُعقَّدة في العراق. مع ارتفاع أسعار النفط، يواجه عددٌ من المدن العراقية نقصًا متزايدًا في الوقود. يُمكن لسائقي السيارات في مدينة الموصل الجلوس في طابورٍ لمدة تصل إلى ساعة لملء سياراتهم. ويرجع جُزءٌ من النقص إلى تهريب الوقود إلى إقليم كردستان العراق، حيث تبلغ أسعار الوقود ضعف نظيرتها في أجزاء أخرى من البلاد التي يتم فيها دعم الوقود بشكل أكبر. كما يتم تهريب بعضها إلى سوريا، ما يعكس الأزمات الأوسع في المنطقة.

يؤثر قطاع الطاقة المختل وظيفيًا في العراق أيضًا في بيئته. تعمل المولدات الكهربائية الخاصة، التي تُشكّلُ ما يقرب من 20 في المئة من إمدادات الكهرباء في العراق، على وقود الديزل، ما يزيد من تلوّث البلاد. ويُعتَبَرُ حرق الغاز الطبيعي الناتج عن استخراج النفط من بين أسوَإِ العوامل المُسَبِّبة للتلوّث، ومع ذلك يواصل العراق حرق أكثر من نصف الغاز الطبيعي الذي تنتجه حقول النفط.

الحلولُ مُتاحة ومعروفة، مثل المشاريع التي تُشرف عليها شركة غاز البصرة –مشروع مشترك بين شركة غاز الجنوب العراقية وشركة شل وميتسوبيشي– التي تعمل على التقاط الغاز للاستخدام المنزلي. إن تطوير التقاط الغاز، الذي من المُفترَض أن يستثمر العراق فيه 3 مليارات دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة، سيكون أمرًا حيويًا لتقليل اعتماد العراق غير المنطقي على إيران لواردات الغاز – التي تصل إلى 50 مليون متر مكعب يوميًا في ذروتها.

إذا تم إنفاق الاستثمار البالغ 3 مليارات دولار على مشاريع التقاط الغاز وتقليل واردات الغاز من إيران، فستكون الفوائد هي تقليل الفواتير الباهظة المدفوعة لإيران مقابل الغاز وتحسين بيئة العراق. وكان وزير الكهرباء العراقي بالإنابة عادل كريم قال في شباط (فبراير) الماضي إن العراق متأخر 1.6 مليار دولار عن دفع واردات الغاز الإيراني. ومن المفارقات أن العراق غنيٌّ بالغاز في عدد من المواقع، بما في ذلك إقليم كردستان، لكن الخلاف السياسي يُعيق تطوره السليم.

هناك طبقة أخرى من التعقيد في مزيج الطاقة تتمثّل في عدم وجود قانون للمواد الهيدروكربونية في الدولة يمكنه تنظيم هذه الأمور وغيرها. وقد سمح ذلك بتسييسٍ متزايد لقضية الطاقة، بما في ذلك قرار المحكمة الاتحادية العراقية بأن صادرات نفط إقليم كردستان هي غير دستورية – بعد سنوات من عدم إصدار حكمٍ في هذا الشأن.

منذ سنوات، تقوم حكومة إقليم كردستان باستخراج النفط الخام وبيعه بشكلٍ مستقل عن الحكومة الاتحادية ووزارة النفط العراقية، وفي العام 2007 أقرت قانون النفط الخاص بها. في شباط (فبراير) الفائت، منحت المحكمة العليا العراقية فوزًا للحكومة الاتحادية في بغداد من خلال إصدار مرسوم يقضي بضرورة إدارة النفط في الإقليم على المستوى الاتحادي، بما يتماشى مع الدستور. كما ألغى الحكم عقود حكومة إقليم كردستان مع الشركات الأجنبية، والتي بدونها سيكافح إقليم كردستان للحفاظ على قطاع الطاقة.

يُمثّل ملف الطاقة قلب الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية في العراق. لقد ساعد تهريب النفط الإيراني عبر العراق طهران على الالتفاف على العقوبات، والأخيرة حريصة على الحفاظ على شريان الحياة هذا، خصوصًا مع تعثّر المحادثات النووية. حاولت إيران التأثير في قطاع النفط العراقي، لا سيما في الجنوب، لكنها تواجه مقاومة متزايدة.

علاوة على ذلك، فإن الفسادَ الذي يُعيقُ الحياةَ العامة في العراق مُرتَبِطٌ بقطاع الطاقة، من عصابات المولّدات الخاصة إلى عقود النفط المُقَسَّمة بين مجموعات سياسية مختلفة. ومنذ الانتخابات في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، غرقت الأحزاب السياسية في البلاد في مأزقٍ سياسي.

في غضون ذلك، تعمل إيران بجهدٍ للتأثيرِ في تشكيل الحكومة المقبلة، خوفًا من استبعاد وكلائها. من حق رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر، الذي فاز مرشحوه بـ 73 مقعدًا في البرلمان العراقي المؤلف من 329 مقعدًا، تشكيل الحكومة المقبلة كجُزءٍ من ائتلاف الأغلبية. كان الصدر أكثر منتقدي إيران علنًا من بين الأحزاب الشيعية في العراق، وتحالف مع الحزب الديموقراطي الكردستاني، بزعامة مسعود بارزاني، والتحالف السيادي بقيادة رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي. يعتقد بعض المسؤولين الأكراد أن حكم المحكمة ضد إقليم كردستان هو جُزءٌ من جهود للضغط على حكومته كي تُذعن لتشكيل الحكومة.

بينما تُحارِبُ إيران ووكلاؤها تشكيل حكومة تستبعد نفوذهم، يتعرّض قطاع الطاقة في إقليم كردستان لهجومٍ متزايد. بالإضافة إلى قرار المحكمة الاتحادية بوقف تصدير النفط، كانت هناك هجمات مادية على قطاع الطاقة. في 13 آذار (مارس)، أعلنت إيران علنًا مسؤوليتها عن سلسلة من الضربات الصاروخية على منزل باز كريم برزنجي، الرئيس التنفيذي لمجموعة كار، وهي شركة نفط كردية عراقية. بينما زعمت طهران أن الهجوم كان ضد “عملاء الموساد” الإسرائيليين، وهو تأكيد نفته كلٌّ من الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان، كانت الرسالة أن إيران تريد ممارسة أقصى قدر من الضغط على الحزب الديموقراطي الكردستاني وإظهار قدرتها على ضرب شرايين الحياة الحيوية في الإقليم. وقد عزز هجومٌ على مصفاة نفط مملوكة لـ”كار” بعد ثلاثة أسابيع هذه الرسالة.

لولا كل هذا الخلل الوظيفي، مع الارتفاع العالمي في أسعار النفط، لكان العراق في وضع جيد للاستفادة من موارد الطاقة لديه للمضي قدمًا. في آذار (مارس)، بلغت عائدات العراق النفطية 11 مليار دولار، وهي الأعلى منذ نصف قرن، بحسب وزارة النفط. مع اعتماد موازنة العراق على أسعار النفط عند 55 دولارًا للبرميل، فإن المكاسب المفاجئة من الأسعار المرتفعة يمكن أن توفر فرصة نادرة للاستثمار في البنية التحتية للبلاد، لا سيما في قطاع الطاقة.

ومع ذلك، فإن الواقع هو أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. إن اعتماد العراق المُفرط على النفط، حيث تُشكّلُ عائداته 92 في المئة من إيرادات الموازنة الحكومية، يعني أنه لم يتم عمل الكثير لتنويع الإقتصاد. مع ارتفاع أسعار النفط، يتبدّد الحافز الضئيل لإنعاش القطاعات الصناعية والزراعية في البلاد مع تراجع المسؤولين وتركيزهم على النفط باعتباره المُحرّك الرئيس للإيرادات. علاوة على ذلك، أصبحت الانقسامات بين بغداد وأربيل بشأن النفط أكثر تعقيدًا مع تعرّض الإيرادات المرتفعة للخطر.

من دون تشكيل حكومة ومع استمرار الاقتتال السياسي، فإن فُرَصَ الإصلاحات ضئيلة. بينما يتجه العراق إلى صيفٍ حار آخر، حيث تتجاوز درجات الحرارة في كثير من الأحيان 50 درجة مئوية، فإن الخوفَ هو أن المزيد من العائدات سيعني ببساطة المزيد من الفساد واستمرار نهب ثروات البلاد.

  • مينا العُرَيبي هي صحافية عراقية بريطانية ورئيسة تحرير صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @AlOraibi

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى