… وقيمتُهم الأَخيرة: صُوَرٌ على حيطان
هنري زغيب*
إِنه موسمُهم. كلَّ أَربعِ سنواتٍ يهِلُّ موسمُهم. نَحْسًا يهِلُّ، وشُؤْمًا. فما مرةً كان موسمُهم سعدًا على البلاد، همُ الذين يعملون لكل صالح إِلَّا لصالح البلاد. أُغالي؟ أَبدًا. ها هُم حَولنا هذه الأَيام، فلْنُتابِعْهم ونَرَ: أَفرَغوا القواميس واستنفَدوها فلم يتركُوا كلماتٍ رنانةً طنانةً فنانةً إِلَّا استهلَكُوها، شعارًا لهم فارغًا من أَيِّ مضمون، أَو عنوانًا مُكرَّرًا لاسم لائحتهم، وفي تبشيرِهم – شعارًا ولائحةً – أَنهم يعملون لخدمة “لبنان الحبيب” و”الشعب الحبيب” في لبنان.
وفي سبيل هذه “الخدمة الكريمة”، يتقدَّمون من الشعب لوائحَ ضد لوائح، يتنافسون، يتلاطمون، يتَـتَاهمون (يتبادلون التُهَم بالصُراخ)، يترافسون (يتبادلون الرفْس بالأَقدام)، يتطاوسون، وأَمام الشعب يَتَمَهْرَجُون: شعاراتٍ على أَلواح إِعلانات وصُوَرًا على حيطان. وإِذا ضاق بهم مجال الحلقات المدفوعة إِذاعةً أَو تلفزةً، يتناهشون في حملات “سُوشِليَّة” (و”السوشِل ميديا” منصة العصر الرخيصة والسهلة) فيجيِّشون مناصرين ببَّغاويين يدافعون، ينافحون، يردُّون على الخصوم بأَقذع مفردات الشتم والسباب، وإِذا اضطُرُّوا يختئبون ثعلبيًّا خلف المدعو مكتبهم الإِعلامي.
وكيف لا يتهافتون، وفي وعيهم النرسيسيّ مُغْرَيات لا تُحصى، من مخصَّصات شخصية، ونمرة زرقاء، وزعامة شعبية، وحصانة نيابية (لا تُمَس يمرِّرون بفضلها كلَّ ما لذ لهم وطاب من محلَّلات ومحرَّمات)، ومناداة عذبة ترنُّ في قلوبهم “سعادة النائب”، وسيارات بلا جمرك (ذات لوحة واحدة هي ذاتها تنفلش على سيارة الــ”مَدَام” والأَولاد وسائر النسل)، ورفاه الحصول على سائق أَو أَكثر، وغطرسة سُلطة سياسيةٍ ومالٍ مش ضروري أَنْ كلُّه نظيف. ولأَجل ذلك كلِّه يتلاوَحُون في لوائح، ويتلَحْلَحُون على أَلواح إِعلانية، ويفوزون لا فرْق بين أَن يصلوا بصوت تفضيلي أَو على ظهر البوسطة في اللائحة الفائزة بفضل قانون انتخابي عاهر.
لِـمَ كلُّ هذا الغضب عليهم؟ لأَنهم يبشِّرون بالعفاف وهم خائنوهُ، وبمحاربة الفساد وهم جنودُهُ، وبإِنقاذ البلاد وهم يوضاسيُّوها، وبتصحيح الأَوضاع الكارثية وهم مُسبِّبوها، وبتعطيل وُصُول العناصر الشابة لأَنها تفضَحُهم. ففي جيلنا الجديد شبَّان وشابَّات من أَوساط جامعية ومثقفة جديرة بأَن تدخل البرلمان بثقافتها الوثقى. فالـمُرْشَحون التقليديون مسبطِرُّون على مقاعدهم الخشبية حتى صاروا أَخْشَبَ منها، وإِذا غادروا يضيِّفوننا نَسْلَهم غيرَ الحميد، مهاجمين الشباب الجدُد بمقولة “الولَد ولَد ولو حكَم بلَد”، كي يظَلُّوا هم نوَّابًا دائمين، ومُرْشَحين دائمين، وحكَّامًا دائمين، ومتحَكِّمين دائمين، ومسْتَحْكِمين دائمين بمصير البلاد عائليًّا وسياسيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا واصطفافيًّا وتكتُّلاتيًّا وتوريثيًا. فالشعب عندهم مجموع أَرقام في پــوانتاجهم الانتخابي، ومجموع أَزلام ومحاسيب ومستزلمين طامعين منهم بوساطة، أَو ببطاقة توصية لتوظيف عبد العفو زمور، أَو لإِطلاق سراح أَبو الفضل خندريس، أَو رخصة مسدس لابن بنت خال إِشعيا بِنْ آغا الطَهْطَزَنّ. أَما التشريع، وهو دورهم الرئيس، فلا أَهمية له طالما لن يصيبَهم من عَنَائه سوى رفْع الإِصبع للتصويت على قانون معجَّل مكرَّر لم يتعجَّلوا له ولم يكرروا قراءةَ سطرٍ منه واحد.
إِننا نَرصد آمالنا على مُرَشَّحين جُدد فيكون لنا في المجلس الجديد نوابٌ غيرُ ملوثين بالطمع والفساد، يخدمون الناس واعين مسؤُولية أَنْ يمثِّلوا الناس ويَشعروا معهم، لا أَن يَتَعَالوا عليهم ويكتَفوا بزيارات التعزية. نوابٌ يحملون هموم مَن ينوبون عنهم، ويُدركون حقيقة النيابة وفْق مواصفاتها فلا ينتخب المواطنون إِلَّا الـمُطابقين المواصفات. إِن أَمامنا مساطر ومساخر ومباخر وأَواخر لن يزولوا إِلَّا بوصول نواب جُدُد إِلى ساحة النجمة حتى يبدأَ التغيير ولو بالحد الأَدنى من الجيل الثائر، فمعظم الـمُرْشَحين التقليديين ليست قيمتُهم الأَخيرة سوى… صورٍ على حيطان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib