لبنان… الحَربُ اللبنانيّة المُستَدامة (42): توسُّعٌ في الخارج ضعفٌ في الداخل

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

“حزب الله” في سوريا: توسعه قد تكون له تداعيات في المستقبل.

سليمان الفرزلي*

26 من شباط (فبراير) سنة 2010، كاد أن يكونَ يومًا عاديًا في دمشق، لو لم يحدث فيه ما لفت أنظار العالم كلّه، وأثارَ حفيظةَ، وشكوك، المسيحيين في لبنان، وبعض السنَّة.

أن يزورَ محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عاصمة الأمويين، هو أمرٌ طبيعي، فالعُرى بين دمشق وطهران، وثيقةٌ، والمصالحُ مُتبادَلةٌ.

كانَ من لزومِ الزيارة الرسمية، أن تنعَقِدَ قمّةٌ، بين الضيفِ (الرئيس الإيراني) والمُضيفِ (الرئيس بشار الأسد)، لتوثيق العلاقات، والتأكيد على المصالح المشتركة. لكن، أن ينضمَّ إلى اجتماعهما، الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، هو الملفت، والمُثير، فالرجلُ لا يتمتّعُ بصفةِ “رئيس دولة” ولم يُمنَح أيَّ صلاحيةٍ تقريرية من الشعب اللبناني، ليكون طرفًا ثالثًا بين رئيسين، ويجلس معهما إلى الحديث، فبدا ذلك، وكأنَّ السيد هو الرئيس الفعلي للجمهورية اللبنانية، لا الرئيس الماروني! وأنَّ الرئيسين، السوري والإيراني، وَجَّها، بهذا التصرف، رسالةً إلى اللبنانيين، مفادها، أنَّ “هذا هو رئيسكم، بيده القرار، وإليه العودة، من الآن وصاعدًا”!

لم يكن مُستَغرَبًا، بعد الذي جرى، ودار، في دمشق، يومذاك، أن تزدادَ مخاوفُ المسيحيين، ويتفاقَم امتعاضهم، فرئاسةُ الجمهورية معقودةٌ لهم، بمُقتضى “الميثاق الوطني” قبل الطائف، وبالدستور بعده. فلعبت الهواجس في رؤوسِ بعض مُحرّكي الرأي العام المسيحي، بأنَّ “القمة الثلاثية”، تلك، هي إعلانٌ واضحٌ،  عن تغييرٍ مُضمِر، في طبيعة الصيغة اللبنانية التاريخية بحيث يبقى للبنان رئيسٌ مسيحي، شكلي، بروتوكولي، بلا صلاحيات تقريرية، بعدما نزع منه “مؤتمر الطائف”، الصلاحية السياسية الأهم، وهي الحقُّ في حلِّ المجلس النيابي، فأصبح رئيس المجلس (الشيعي)، مطلق الصلاحية في السياسة الداخلية، بينما أمين عام “حزب الله”، له حرية التصرف بالسياسة الخارجية للبلاد.

وليس أدلُّ على ذلك، من القرار المنفرد الذي اتخذه “حزب الله”، بدعمِ النظام السوري المأزوم، والمُشاركة في صدِّ المُتمرّدين عليه ومقاتلتهم، فأرسل سنة 2012 كتائب من مقاتليه إلى منطقة “القصير”، بحجة الدفاع عن المواطنين اللبنانيين الشيعة، المُقيمين في تلك المنطقة الحدودية قي شمال البقاع.

أمّا داخليًا، فبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، أجاز “حزب الله” لحكومةِ تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي عَقدَ اجتماعاتها، خلافًا للدستور، وبحجّة تيسير أمور الناس والدولة، في فترة الفراغ الرئاسي، مُناقضًا بذلك موقف “التيار الوطني الحر”، حليفه المسيحي. اعتبرَ المسيحيون أنَّ هذا الموقفَ المُستغرَب هو “رسالة مبطَّنة” إليهم، لا تخلو من تهديدٍ أو تحذيرٍ ضمني، بأنَّ التمادي في المُناكفة وعَرقَلة وصول مرشَّح “الثنائي الشيعي” إلى رئاسة الجمهورية، لن يُعطي المسيحيين أكثر مما هم حاصلون عليه، وأنَّ إصرارهم على تحصيل المزيد من خلال ما يسمونه “تصحيح اختلال التوازن”، يمكن أن يُعرّضهم إلى خسارةِ المزيد.

كلُّ تلك المؤشّرات والأدلّة، أنبأت بأنَّ “حزب الله” في لبنان هو “الحزب القائد”، وبالتالي هو الذي يُديرُ الدفَّة، شاء الآخرون أم لم يشاؤوا، وبأنَّ الحزبَ القائد يتكلم، وعلى الآخرين “السمع والطاعة”.

كلّما اشتدّت المطالبة الداخلية، والخارجية أيضًا، بالتعجيل في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يتنادى بعضُ القوى السياسية إلى ما سمّوه “تحديد مواصفات الرئيس المطلوب”، وكأنَّ بها تنتعش الآمال، وتصطلح الأحوال. أما “حزب الله” فكان يرى أنَّ “أهل المواصفات” يتحدثون في أمورٍ كثيرة، بينما المطلوبُ واحدٌ، وهو أن تكون للرئيس العتيد صفةٌ مُعَيَّنة، حدَّدها نصر الله بجملةٍ واحدة: “ألَّا يطعن المقاومة في الظهر”. أو بكلام فاصل ناجز: مرشح “الثُنائي الشيعي”، أو لا أحد.

هناكَ مواقف كثيرة مُماثلة، لا يعلن الحزب عنها، لكنه يتصرَّف على أساسها، ويعمل في إطارها، وذلك مراعاةً منه للحساسيات المجتمعية، وليس القوى السياسية. فهو إن كان منح نفسه “أحقيَّة السيطرة” على بيئته الحاضنة، إلّا أنه يدرك تمامًا أنَّ لا قدرة له على استمالة بقية اللبنانيين، إلّاَ بتغليفٍ إيديولوجي قوامه “المطلق الأخلاقي”، الذي يُظهر المقاومة على أنها “فوق الشبهات”.

إنَّ فكرةَ “البيئة الحاضنة” من حيثُ تكوينها الإرادي، أو الإضطراري، المُتَشكّلة من جناحَين (“أمل” و”حزب الله”)، تُمثِّلُ في نظر بقية اللبنانيين تركيبًا هجينًا، أحد طرفيه ليس فوق الشبهات. وحتى الآن لم يقدِّم أحدٌ تبريرًا لهذه الثنائية المُغلَقة على الآخرين، غير القول بتماسك البيئة الحاضنة لمُقتَضيات حماية المقاومة، على الرُغمِ من المسؤولية الجسيمة، التي يحملها أحد جناحَي هذه التركيبة، من حيث الضلوع في إيصال لبنان إلى الانهيارات التي شهدها على جميع المستويات.

إنَّ ما قامت عليه “البيئة الحاضنة” في الأصل، بعد اصطدامٍ مُسلّح بين جناحيها، هو ائتلافٌ ضمن الطائفة الشيعية، لرَصِّ صفوفها وتوحيد كلمتها وراء المقاومة، واضعةً كلَّ النقائض الأخرى خارج اهتماماتها.

هذا المفهوم للبيئة الحاضنة لا يقُيمُ وزنًا لإمكانية أن يأكل الشريك الآخر في “الثنائية الشيعية” من رصيد المقاومة، في الذهن الشعبي العام، مما ينتقصُ من رونقها في إطار، “المطلق الأخلاقي”، فتبتعد المقاومة بذلك، أكثر فأكثر، عن إطارها المبدئي باتجاه النزعة السلطوية القائمة على الاستئثار.

هذا التحوُّلُ في “البيئة الحاضنة”، بعيدًا ببطء عن “المطلق الأخلاقي” القائم على التضحية المجرَّدة بالذات في سبيل أهداف سامية، انتقص في المضمون من التعدُّديَّة اللبنانية، ليس باتجاه الوحدانية وهو أمر غير ممكن، بل من حيث حصر الانتفاع من الوضع القائم في اتجاهٍ واحد.

لقد قامت المعادلة اللبنانية على أساسِ أنَّ الاختلافَ التعدُّدي ينفع فئات مختلفة بطُرُقٍ مختلفة، فإذا بمعادلةٍ جديدة تبرزُ وتهدفُ إلى التفرُّدِ بالانتفاع، من خلال امتلاك الكلمة الفصل المقرِّرَة في جميع الشؤون المحليَّة، من قرار الحرب والسلم، وانتخاب رئيس الجمهورية، إلى تشكيل الحكومات، الى الأحكام القضائية، إلى أصغر معاملةٍ في دوائر الدولة، التي صارت كلُّها هياكل شكليَّة.

إنَّ الوحدانية في لبنان لا تقوم من خلال حكم الحزب الواحد، لكن حزبًا واحدًا لديه القوة الداخلية القصوى، ومدعوم من جهة إقليمية كبرى، يمكنه تطويع التعددية التقليدية في خدمة سلطته وأهدافه، فينتفي بذلك الفارق بين الوحدانية الاستئثارية والتعدُّدية الشكليَّة. وينسحب ذلك على “البيئة الحاضنة”، حيث تسود الوحدانية الثقافية، خصوصًا في مجال تثقيف الأجيال الجديدة على التميُّز الثقافي والمجتمعي عن بقية اللبنانيين.

إنَّ اعتمادَ ثقافةٍ مُغايرة للثقافة اللبنانية التعدّدية، في تثقيف الأجيال الشيعية الطالعة من شأنه مستقبلًا أن يوقع تلك الأجيال في مأزقٍ عند أيِّ اختلالٍ في تلك الأُسُس والأُطُر الثقافية من جرَّاء التطور الطبيعي للأوضاع العالمية، فتبرز إشكالية: إما عزل البيئة الحاضنة عن بقية اللبنانيين، أو وضعها في مواجهتهم، واستحالة عزلها عن القوى الخارجية، لتصبح أشبه بالجالية الأجنبية!

لقد تبيَّن من المشاركة المحدودة (أو الحدودية) ل”حزب الله” في حرب غزَّة، بعد توسُّعٍ مشهود في نطاق الحروب الإقليمية، غير متناسبة مع حجم لبنان وإمكاناته، أنَّ كلَّ توسُّعٍ في الخارج يؤدّي الى ضعفٍ في الداخل.

إنَّ هذا القانون الطبيعي يسري على الدول الكبرى أيضًا. فالاتحاد السوفياتي، على سبيل المثال، سقط في هذا المطب، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، وأيضًا جميع الإمبراطوريات المتعاقبة منذ فجر التاريخ. والتخبُّط الإسرائيلي في حرب غزة خير مثال على ذلك.

خلاصة هذا القانون، أنَّ الضعفَ في الداخل يؤدّي الى تناقص الشرعية، ليس لنقصٍ في القوة، بل بفعل الابتعاد عن المواقف المبدئية والأخلاقية.

المفارقة في الأمر، أن التوسُّعَ الإقليمي للفائض في قوة “حزب الله”، حشر لبنان في عنق الزجاجة، ووضعه أمام مخرجٍ واحد، يخالف فيه السياق التاريخي المتوارث، فيدير وجهه إلى الشرق وظهره إلى الغرب.

لكنه أيضًا مأزق إقليمي، إذا كان خروج لبنان من عنق الزجاجة سيؤدّي به إلى تقويضِ الأُسُسِ التي قام عليها منذ الاستقلال. هذا الاحتمال ما زال واردًا، وإذا ما تحقق في يوم من الأيام، وهو أمرٌ لا يبدو قريب المنال في المستقبل المنظور، فإنَّ ذلك في نظر العالم، ونظر اللبنانيين، يُشَكّلُ إخفاقًا لتوسّعية “حزب الله”. لكن هذا الإخفاق، لا يعني نهاية “حزب الله” كحزب لبناني يحمل همومًا لبنانية. وخطورة هذا التحوّل، أنه سيُنزِلُ الأذى بالأطراف الإقليمية التي تشارك معها أثناء توسيع دائرة اهتماماته الخارجية.

البديل من ذلك، أن يُصبحَ لبنان دولة تابعة، في إطارِ استقلاليةٍ شكلية. والمعروف أن الدولة التابعة، هي بالضرورة دولة فاشلة، تعيش على كفِّ الحربِ الأهليّة المُستدامة.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى