لهذه الأسباب تأجّلت الإنتخاباتُ الليبية… ولكن متى ستَجري؟

مع استمرار ليبيا في مسارها التنازلي وظهور حكومتين متنافستين ومخاطر التصعيد العسكري، يجب أن تُركّز الوساطة الدولية على توحيد مؤسسات البلاد وبناء البيئة لانتخاباتٍ مُتَّفَق عليها ومُعَدَّة بشكلٍ جيد.

رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة: يريد الترشح رُغم تعهده بعدم فعل ذلك

عُمَر حمّادي*

الإنتخاباتُ في ليبيا التي أنتجها الحوار السياسي الذي يسّرته الأمم المتحدة، والتي كان من المُقَرَّر إجراؤها في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021، لم تَجرِ.

هذه النتيجة كانت مُتَوَقَّعة لأن العمليةَ مليئة بالعوامل الذاتية المهزومة والتي كان تنفيذها يعتمد على الحركات البهلوانية القانونية والدستورية والسياسية. كانت العملية مُحاصَرة بمسألتيَن مُترابِطتَين: الخلافات حول فكرة إجراء انتخاباتٍ رئاسية في السياق الحالي، والفشل الناتج في التوصل إلى الإجماع المطلوب على إطارٍ للانتخابات.

من المُرجَّح أن يؤدي انهيار هذه العملية إلى تفكّكٍ سياسي، بما في ذلك ظهور حكومتَين مُتنافستَين وخطر حقيقي بالتصعيد العسكري. ونتيجة لذلك، فإن الانتخابات المدعومة على نطاق واسع والتي كان من المُفتَرَض أن تغرس في البلاد مؤسّساتٍ شرعية مُوَحَّدة وتخليصها من المجالس المُتنافسة حاليًا ستؤجَّل إلى أجَلٍ بعيد.

تنبع العملية السياسية الحالية من محاولاتٍ للتغلّب على أزمةِ ما بعد انتخابات العام 2014 والتي أسفرت عن مُطالباتٍ مُتنافسة للشرعية من قبل مَجلسَين: مجلس النواب المُنتَخَب حديثًا، ومقره في شرق البلاد، والذي ألغت في النهاية المحكمة العليا انتخابه، والبرلمان السابق “المؤتمر الوطني العام” في الغرب الذي ادّعى استمرار الشرعية.

للتغلّب على هذا الصراع، وقَّع كلا المجلسَين على ميثاقٍ توسّطت فيه الأمم المتحدة يُعرف بالاتفاق السياسي الليبي في المغرب في كانون الأول (ديسمبر) 2015. وقد حافظ الاتفاق على كلا الهيئتين وجعلهما مُشَرِّعَين مُشتَرَكَين في جميع القوانين والترتيبات الدستورية اللازمة للعملية الانتقالية.

فشل المَجلِسَين بشكلٍ كبير في التوصل إلى توافقٍ في الآراء، واستمرت البلاد مُنقسمة بين حكومتين متنافستين حتى العام 2019. ثم أَحبَطت محاولات الجنرال خليفة حفتر، لتسوية الصراع عسكريًا من خلال حربٍ على طرابلس، جهودَ الأمم المتحدة لدفع العملية إلى الأمام عبر مؤتمر وطني. بعد هزيمته، سمح الإجماع الدولي والإقليمي تجديد جهود الأمم المتحدة لتنشيط العملية السياسية. وقد انعكس ذلك في مؤتمر برلين في كانون الثاني (يناير) 2020.

دعا هذا المؤتمر في بيانه الأخير إلى تشكيل مجلس رئاسة وتشكيل حكومة واستئناف العملية السياسية “ما يُمهِّد الطريق لإنهاء المرحلة الإنتقالية من خلال … انتخاباتٍ نيابية ورئاسية”.

لتفعيل نتائج مؤتمر برلين، أنشأت بعثة الأمم المتحدة “مُلتقى الحوار السياسي الليبي” المُكَوَّن من 75 عضوًا. إجتمعَ هذا المنتدى في تونس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، واعتمد خارطة طريق ترسُمُ مرحلةً انتقاليةً جديدة مدّتها 18 شهرًا، يقودها مجلس رئاسي تم اختياره حديثًا وحكومة وحدة وطنية، وتُتَوَّج بإجراء انتخاباتٍ رئاسية مُتزامنة مع انتخاباتٍ برلمانية في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021.

نصّت خارطة الطريق على أن المَجلِسَين، مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، يجب أن يَتِّفقا على إطار عملٍ للانتخابات في غضون 60 يومًا، وإلّا فإن “مُلتقى الحوار السياسي الليبي” سيبتّ في الأمر. ومع ذلك، فشل كلا المجلسين وملتقى الحوار السياسي الليبي في تبنّي إطار عمل. في كلا المُنتديين، تركزت الخلافات حول الانتخابات الرئاسية.

كان إجراءُ الإنتخاباتِ الرئاسية مُثيرًا للجدل في ليبيا منذ العام 2011، عندما تمت الإطاحة بالديكتاتور معمر القذافي. تم استبعادها من قبل الهيئات التمثيلية في 2012 و2013 قبل الانتخابات الوطنية التي كان من المقرر إجراؤها في 2014، ومرة أخرى في ذلك العام. كان الأساس المنطقي الذي طرحه الثوار، المعروفون بكتيبة فبراير (شباط)، هو أن انتخاب رئيس خلال الفترة الانتقالية من شأنه أن يَحكُمَ مُسبقًا على طبيعة النظام السياسي الذي سيؤسّسه الدستور الدائم. بالإضافة إلى ذلك، كانوا قلقين من أن فَرضَ رئيسٍ قويٍّ على دولةٍ ضعيفة يُمكِنُ أن يُمَهِّدَ الطريق لحُكمٍ استبدادي.

عندما شرعت الهيئات المختلفة في تبنّي إطار عملٍ لانتخابات 24 كانون الأول (ديسمبر)، ظهرت هذه القضية مرة أخرى. دارت شروط النقاش حول نقطتين: ما إذا كان ينبغي للبلد إجراء انتخابات رئاسية، وإذا كان الأمر كذلك، فمَن الذي يُمكنه الترشّح للانتخابات.

حول السؤال الأول، إعتقَدَ كلٌّ من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عيسى وحفتر ووزير الداخلية السابق فتحي باشاغا أن لديهم فرصة كبيرة للفوز في الانتخابات الرئاسية وأصرّوا على أن الانتخابات الرئاسية هي الطريقة الوحيدة التي يُمكن من خلالها حكم البلاد بشكل فعاّل. كما روّج أنصار النظام السابق لفكرة الانتخابات الرئاسية، مُعتقدين أن مرشحهم، نجل الديكتاتور السابق سيف الإسلام القذافي، لديه فرصة جيدة للفوز.

من ناحية أخرى، كرّرت “كتيبة فبراير” بشكلٍ عام مُعارضتها لإجراء انتخاباتٍ رئاسية قبل وضع دستور دائم، باستخدام الأساس المنطقي عينه الذي تم وضعه في العامين 2012 و2013. كما رفضت ترشيحَي حفتر والقذافي، حيث اعتبرت أن كلاهما مُجرِمَان مُدانَان وهارِبَان.

في ما يتعلق بالسؤال الثاني، مع كون حفتر ضابطًا عسكريًا في الخدمة الفعلية ومواطنًا أميركيًا، أصرّ أنصاره على ضرورة تعديل شروط الأهلية وفقًا لذلك. القوانين الليبية العادية السائدة تُحظّر عليه الترشح وفقًا لكلا الأساسين. وبالمثل، أصرّ أنصار النظام السابق على أن التمتع بالحقوق السياسية والإجراءات الجنائية من دون حكمٍ قضائيٍّ نهائي لا ينبغي أن يكونا من الشروط للأهلية.

حالت هذه الخلافات دون اتفاق ملتقى الحوار السياسي الليبي على إطارٍ للإنتخابات. كما امتنع وسيط الأمم المتحدة عن تقديم أي مقترحات تقريبية. ومع ذلك، كان المجتمع الدولي يُحاولُ يائسًا تحقيق ما بدا أنه جدول أعماله الوحيد لليبيا: إنتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة في 24 كانون الأول (ديسمبر).

مُستَغِلًّا هذا اليأس الدولي، أصدر عقيلة صالح عيسى من جانب واحد، في 8 أيلول (سبتمبر) 2021 ، “قانون الانتخابات الرئاسية” بدون إجراء تصويتٍ عليه في مجلس النواب. عدّل القانون التسلسل الانتخابي المُتَّفَق عليه من خلال النص على إجراء انتخاباتٍ رئاسية قبل الانتخابات البرلمانية، وتضمّن أحكامًا ذات طبيعة دستورية مثل السلطات والشروط الرئاسية، وتخفيف معايير الأهلية للسماح للأفراد العسكريين وحاملي الجنسية المزدوجة بالترشّح للإنتخابات.

أيّدت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والجهات الفاعلة الدولية الأخرى في ليبيا هذا القانون المُفتَرَض. كانت هذه نقطة تحوّل، حيث إن تفويض البعثة هو بالتحديد “مواصلة تنفيذ” الاتفاق السياسي الليبي، الأمر الذي يتطلب إجماعًا بين المَجلِسَين على مثل هذا القانون. كما كان مُتَوَقَّعًا، شجّع الدعم الدولي عقيلة صالح عيسى، الذي أصدر بعد شهر واحد، ومرة ​​أخرى بدون أي تصويت من مجلس النواب، “قانون الإنتخابات البرلمانية”.

من خلال دعم القوانين التي انتهكت الاتفاق السياسي الليبي، أضعف المجتمع الدولي مكانة وسلطة الإطار المُعتَمَد دوليًا، وبالتالي حرم العملية من مصدرٍ مَوثوقٍ يُمكِنُ الرجوع إليه في حالة حدوث نزاع. وجعل هذا الأمر من السهل، في مرحلة التنفيذ، تجاهل أي قواعد ذات صلة.

خلال عملية الترشيح، على سبيل المثال، بدا أن مؤيدي القوانين الانتخابية المُتنازَع عليها يعتزمون الالتزام بها فقط إلى الحدّ الذي سيتم فيه منع منافسيهم السياسيين فعليًا من الترشّح. ومن بين هؤلاء على وجه الخصوص رئيس الوزراء الحالي، عبد الحميد الدبيبة، الذي كان وقّع أصلًا على تعهّدٍ بعدم الترشّح للإنتخابات، والقذافي، الذي صدر بحقّه أوامر توقيف من المحاكم الليبية والمحكمة الجنائية الدولية.

قدّم كلٌّ من الدبيبة والقذافي ترشيحيهما اللذين وافقت عليهما المحاكم، وسرعان ما برزا كمُرَشَّحَين مُحتَملَين في الانتخابات الرئاسية. وبالتالي، رفض مؤيدو الانتخابات الرئاسية قرارات المحاكم ذات الصلة ودعوا الهيئة الانتخابية في البلاد إلى تعليق التحضير للانتخابات. وأعلنت الأخيرة في نهاية المطاف أن قوة قاهرة، ناتجة بشكل ملحوظ عن الرفض السياسي لبعض المًرَشَّحين، حالت دون إجراء الانتخابات.

ومع ذلك، كان فشل إجراء الانتخابات مُتَوَقَّعًا أيضًا في ضوء العوامل الأخرى التي أدّت إلى الهزيمة الذاتية في تصميم العملية نفسها.

أوّلاً، هناك إطارُ عمل وضعه الاتفاق السياسي الليبي، والذي منح المَجلِسَين حق النقض (الفيتو) على الانتخابات التي ستؤدي إلى زوالهما. لم تفعل خارطة طريق ملتقى الحوار السياسي الليبي الكثير لمعالجة هذا الأمر، وهو ما كان يُمكِنُ أن تفعله باستخدام طريق بديل قدمته اتفاقية 2015.

ثانيًا، شكّل قرار الاستعجال في إجراء انتخابات إشكالية. تُظهِرُ الدروس المُستفادة من التجارب المُقارِنة، بما فيها في العراق وأفغانستان وأنغولا في العام 1992 وليبيريا في العام 1997 وجنوب السودان منذ العام 2010، أن الانتخابات المُبكرة في مجتمعات ما بعد الصراع تنطوي على مخاطر استئناف الصراع. لا يزال في ليبيا ثلاثة جيوش أجنبية و10 مجموعات مرتزقة أجنبية تعمل على أراضيها بالإضافة إلى مجموعات إرهابية وميليشيات محلية لا حصر لها. لا يُمكِنُ لرئيس وزرائها الحالي زيارة أجزاء كثيرة من البلاد، ولم يتم بعد توحيد مؤسسات الدولة المهمة. وهذا يشير إلى عدم وجود بيئة مواتية للانتخابات بعد.

ثالثًا، أُهمِلَ عددٌ من العناصر التي كان من المُفترَض أن تساعد على بناء تلك البيئة المواتية مثل المصالحة الوطنية واللامركزية وتوحيد مؤسسات الدولة والتي تمَّ التعامل معها، في أفضل الأحوال، على أنها قضايا تقنية ثانوية. لم يكن مجرد تحديد موعد انتخابي أكيد كافيًا لتهيئة البيئة اللازمة بمفرده.

رابعًا، نصّت خارطة الطريق لملتقى الحوار السياسي الليبي على تاريخين مُتعارِضَين: 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021 للانتخابات ومرحلة تحضيرية مدتها 18 شهرًا تنتهي بالانتخابات. تم اعتماد تاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) بطريقة مُرتَجَلة وتزامنًا مع الجدول الزمني الموجود أصلًا البالغ 18 شهرًا. إنعكس هذا الارتباك فقط في النسخة العربية من خارطة الطريق، وهي النسخة التي تَفاوَضَ الليبيون ووافقوا عليها، في حين أن النسخة الإنكليزية، التي يعتمدها المجتمع الديبلوماسي، أشارت فقط إلى 24 كانون الأول (ديسمبر) – مما تسبب في سوء تفاهم بين الليبيين وشركائهم الدوليين.

خامسًا، وأخيرًا، ثبت أن السوابق التي تمّ إقرارها أثناء اختيار السلطة التنفيذية في شباط (فبراير) 2021 كانت قاتلة. ثم سُمح للأفراد العسكريين العاملين، وحتى القضاة، بالترشّح، في انتهاكٍ للقوانين الليبية. أدى ذلك إلى إضعاف قواعد الأهلية وحرمان العملية من السوابق القوية المُتجذّرة في القانون والممارسات الليبية.

وخلاصةُ القول، إن الاندفاع لإجراء انتخاباتٍ على أساس إطارٍ قانوني مُتنازَع عليه قوّضَ مكانةَ وسلطة الإطار الحاكم للعملية، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن. كما أنها شكلت سوابق سيئة للقوانين التي أصدرها شخصٌ واحد، وقوّضت مصداقية الهيئة الانتخابية المستقلة في البلاد، وفي نهاية المطاف، عرّضت السلام الهشّ في ليبيا للخطر.

يعكس فشل إجراء الانتخابات مخاوف وجودية بين العديد من الدوائر الانتخابية وهو تذكير بأن الانتخابات في ليبيا بحاجة إلى المساهمة في العملية السلمية ونتيجتها – بدلاً من أن يتم التعامل معها كهدفٍ نهائيٍّ بحدِّ ذاتها. يجب أن يتم تأطيرها بطريقةٍ غير استقطابية وأن تتكشّف في بيئةٍ مواتية. تُعتَبَرُ الجداول الزمنية مهمة ولكنها تحتاج إلى التدفّق من التقييمات الشاملة القائمة على السياق. إنها لا تُجري العملية بنفسها، ولا يمكنها أن تكون بديلًا من وساطة موثوقة ومقبولة.

مع استمرار ليبيا في مسارها التنازلي مع ظهور حكومتين مُتنافستين ومخاطر التصعيد العسكري، يجب أن تُركّز الوساطة الدولية على توحيد مؤسسات البلاد وبناء البيئة لانتخاباتٍ مُتَّفَق عليها ومُعَدَّة بشكلٍ جيد.

  • عُمَر حمّادي هو مستشارٌ سابق للشؤون السياسية والدستورية في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا من كانون الأول (ديسمبر) 2020 إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2021. عمل في ليبيا كمُنسّق لبرامج شمال إفريقيا في معهد ماكس بلانك للقانون العام المقارن والقانون الدولي من 2011 إلى 2013 ، ثم مديرًا قِطريًا لـ(Democracy Reporting International) من 2014 إلى 2016.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى