مُفاوضاتُ فيينا إلى أين؟

الدكتور ناصيف حتّي*

تَتَّجِهُ الأنظارُ إلى المفاوضات النووية التي تجري في فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي، المعروف بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”، مع إيران بعد خروج الولايات المتحدة منه مع الرئيس السابق دونالد ترامب. الجولة الثامنة من المفاوضات، والتي تشهدُ مفاوضاتٍ أميركية-إيرانية غير مُباشَرة، ستكون هي الحاسمة.

درجةٌ من التفاؤل بإعادة إحياء الاتفاق، وليس بتطويره لصعوبة ذلك، رُغم طرح بعض الأفكار بهذا الشأن في بداية المفاوضات التي انطلقت منذ اشهر عشرة تقريبًا، هي الطاغية. فالطرفان المعنيان بذلك اساسًا، رُغم بعض العوائق التي تُعبِّرُ عنها الشروطُ المُتبادَلة، والتي تبقى جُزءًا من عملية التفاوض “والأخذ والرد” ورفع سقف المطالب كما توصف عادةً في لعبة “عضّ الأصابع” في المفاوضات، يرغبان بالعودة الى الاتفاق. الأمرُ الأفضل من الذهاب الى المجهول والدخول في مسارٍ تصعيدي، في حال لم تتم عملية إحياء الاتفاق الذي يحظى بدعم الاطراف الاخرى الأعضاء فيه. غيابُ الاتفاق سيدفع ايران للعودة  لتخصيب اليورانيوم بشكلٍ  تدريجي من حيث مستوى التخصيب، كما فعلت بعد الخروج الأميركي منه. فقد انتقلت عملية التخصيب من مستوى لا يتعدّى ال٣,٧٥ حسب الاتفاق، إلى مستوى العشرين في المئة وثم الى الستين في المئة. الأمر الذي يفتح الباب أمام احتمال الذهاب لاحقًا إلى رفع التخصيب الى مستوى التسعين في المئة، وهذا يعني بلوغ “العتبة النووية”، أي قدرة انتاج السلاح النووي في فترة زمنية مُحَدَّدة قد تكون سنة أو أكثر إذا شاءت. ويُعرَفُ ذلك تاريخيًا  ب”الخيار الياباني”، أي تملّك قدرة التحوّل الى النووي العسكري إذا شاءت الدولة المعنية، ولكن من دون أن يفترض ذلك  بالفعل امتلاك  القنبلة النووية.

من أهم المشاكل أو العوائق أمامَ التوصّل إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي، والتي هي على طاولة المفاوضات، موضوع رفع كافة العقوبات الأميركية كما تطرحه إيران. من جهته يصُّر الموقف الأميركي على التمييز بين العقوبات المُرتَبِطة بالاتفاق النووي ورفعها، مثل تحرير الأموال الإيرانية المُجمَّدة بالعملة الصعبة بشكلٍ أساسي ويساهم بالتالي في تنشيط الاقتصاد الإيراني. كما يتحدّث الموقف الأميركي عن تعليق العقوبات وليس إلغاؤها، مقابل الاستمرار في إبقاء العقوبات الأخرى المُتعلّقة ب”أفراد أو كيانات” إيرانية وبما يتعلّق بمجال التسلّح الايراني. فهذه كلّها تتعلّق بالسياسات والسلوكيات الإيرانية المرفوضة من طرف واشنطن. وهو بالطبع ما تحاول إيران العمل على إلغائه.  وطالبت إيران أيضًا بالحصول على ضماناتٍ بأن واشنطن لن تعودَ يومًا إلى “خيار ترامب” بالانسحاب من الاتفاق. وتقول الادارة الأميركية إنها لا يمكنها أن تتجاوب مع هذا الشرط لاعتباراتٍ تتعلّق بالقوانين الأميركية التي لا تسمح بالفرض على الرئيس الأمريكي قيودًا مُطلقة ومُسبقة من هذا النوع. مشكلةٌ تُثيرها واشنطن من جهتها تتعلّق في حال التوصّل إلى إعادة إحياء الاتفاق بتفكيك إيران ل”أجهزة الطرد” المتقدمة بشأن التخصيب النووي، وهذا أمرٌ ترفضه طهران بغية الاستمرار في تملك هذه الورقة الضرورية، في ما لو تراجعت واشنطن ضمن أي سيناريو مستقبلي عن الاتفاق كما حصل مع إدارة ترامب. كما إن هناك على طاولة المفاوضات عملية إخراج اليورانيوم المُخصَّب بدرجاتٍ تتخطّى السقف الذي حدّده الاتفاق النووي، الذي أشرنا إليه سابقًا، من إيران. والحديث يدور حول احتمال “استقبال” موسكو لهذا اليورانيوم.

المُثيرُ للاهتمام أيضًا وليس للاستغراب، الموقف الإسرائيلي المُتابع عن قرب، وبخاصة عبر واشنطن لهذا الأمر وفي فيينا أخيرًا. فالعقيدة النووية الاسرائيلية قامت على مبدإِ إن إسرائيل وحدها تمتلك السلاح النووي في المنطقة ضمن استراتيجية “الغموض البناء” أي عدم الإعلان عمّا تملكه من رؤوس نووية. وأن هناك خطًا أحمر لا تسمح بتخطّيه، فيما لو حاولت أي قوة اقليمية الذهاب الى “الخيار الياباني” الذي أشرنا إليه، وإنها تتحرّك بالتالي على هذا الأساس .

إيران تريد الاتفاق لأنه يُحرّرُ، كما أشرنا، قدراتٍ مالية و اقتصادية مهمّة وضرورية لتعزيز وتطوير اقتصادها. ويُساهم الاتفاق أيضًا في اعطاء قوة دفعٍ لتطبيع العلاقات الايرانية مع “الغرب”. وتعتبر القوى الغربية أن هناك أيضًا ملفّين خِلافيين يجب تسويتهما مع إيران: ملف الصواريخ البالستية البعيدة المدى التي تعتبر طهران أنها ليست على طاولة أي مباحثات مع القوى الغربية، وكذلك ملف الدور الايراني في المنطقة كمصدر خلاف غربي-إيراني إلى جانب بالطبع إنه يُشكّل مصدرَ خلافٍ كبير إيراني-عربي. وهناك محادثات ما زالت استكشافية من حيث عدم التوصل الى نتائج ملموسة بين إيران وبعض القوى العربية في هذا الخصوص، باعتبار أن هذه الاخيرة هي المعنية أساسًا بهذا الدور الإيراني أكثر من القوى الغربية. ولا بدَّ من التذكير أن النجاح في هذه المحادثات التي ما زال دونها الكثير من العوائق، بغية إقامة علاقات في الإقليم على أساس المبادىء والقواعد المعروفة في تنظيم العلاقات بين الدول وإدارة خلافاتها متى وُجِدَت، امرٌ أكثر من ضروري للاستقرار الاقليمي الفعلي والصلب .

الخلاصة، إن التوصّل إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي هو أمرٌ أكثر من ضروري لاستقرار المنطقة ولنزعِ أكثر من فتيل انفجار موجود، ولكنه ليس بالأمر الكافي كما أشرنا إذا لم يتم التوصل الى تفاهماتٍ إقليمية بين الأطراف المعنية اساسًا تقوم على اساس اعمال ما أشرنا إليه من  قواعد ومبادىء تُنظّم العلاقات بين الدول في الإقليم.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى