من الحراسة إلى الرئاسة

رشيد درباس*

لا يُوقَدُ سراج ويُوضَعُ تحت مكيال،
لكن على المنارة ليضيء لجميع الذين في البيت.
يسوع المسيح

إذا تكاثرت على الجسد العِلَّات، وتضافرتِ العذاباتُ والآلام، لجأ المريضُ أو ذووه إلى أمهر الأطباء بحثًا عن علاجٍ يجدي، إن لم يكن بالشفاء الكامل، فبتقوية مناعة المريض ورفع حالته المعنوية، وشحن إرادته بحُبّ الحياة. أما أن يُسارِعَ بعضُ آله ونسله، إلى إعلان اليأس من حالته، ذهابًا إلى اقتراح الموت الرحيم، أو ربما الأليم القائم على تقطيع الأوصال المصابة، فعند ذاك ينزل الطبيب من رتبة جرّاحٍ إلى رتبة جزّار، وكلاهما خبيرٌ في علم الأنسجة مع الفارق الشاسع بين نيّة المشرط ونيّة الساطور، أو دور الطبيب ودور حفّار القبور.

لا شكَّ في أن الحالة اللبنانية مُترَدّية دستوريًّا وسياسيًّا وقضائيًّا وماليًّا ومصرفيًّا وحياتيًّا، وهي مَرَضية بمقدارٍ يفرضُ علاجَها بالتبصّر والحنكة وطول الأناة، لا بالفوضى الفكرية التي تصدر عن ضيقِ صدرٍ وعصبية، ورغبةٍ لدى أعضاءٍ من الجسد في التنصّل من وظائف الأعضاء الأُخرى، حتى لقد باتت أدبيات التبرّم والتملص، تطفو بصورةٍ مُتزايدة على سطح الحياة السياسية اللبنانية، مُتجاوِزةً تلك الخريطة ذاتَ الألوان المُبَعثَرة النزقة، التي رسمها وروَّج لها السيد أياد بستاني، ليصير التنصلُ كلامًا صريحًا صادرًا عن نخب لها مرجعياتها، تبدأ خطابَها من التفسير المُوَسَّع جدًّا لمفهوم اللامركزية الإدارية والمالية، ولا تنهيه بإعلانِ فشل الصيغة، وخيبة فكرة التعايش والتداخل، بل تذهب أبعدَ إلى التأكيد على هوياتٍ ثقافية مختلفة تجعل انكفاءَ كل “ثقافة” إلى موئلها الجغرافي قدرًا محتومًا، مع إحياء بعض أفكار الحرب الأهلية التي تنتمي وثائقها إلى متحفٍ مُغلَق.

ومن العجب أن غلاةَ الدعاة إلى الفيدِرالية، يعرفون أنها لا تُعالج الحالة اللبنانية، لأن اللبنانيين اختلفوا حول الركائز التي هي في النظام الفيدِرالي غير قابلة للاختلاف عليها، لجهة وحدة السياسات المالية والخارجية والدفاعية، بحيث تصبح الدعوةُ إلى الفيدِرلة توريةً ناعمةً عن الرغبة في “فك الشراكة”.

في مقابل ذلك يشعر الفريق المُمانع بخسرانِه المتزايد للحلفاء، حتى لقد أصبح ضيِّقَ الصدر غاضبَه، تتدرج تعابيره من “بلُّوها واشربوا  مَيِّتها” إلى “يا للي بيطلع معكم اعملوه” وصولًا إلى التهديد بالحلول محلّ الدولة في القضايا المصيرية، خصوصًا وهو يراقبُ بقلقٍ خطابَ حليفه الأقرب الذي بدأ باللّعثَمة والإبهام ثم تمادى إلى الجهر بالخلاف، رُغمَ الخدمات الانتخابية الجزيلة التي حافظت له على حجم كتلته المُغذّى “بالهرمونات”.

وما بين البينين، تقف الطوائف الأخرى وقد فقدت كُبراها كثيرًا من قوة التأثير، في منطقة حائرة ما بين منطقين  فاسِدَيِّ النتائج سلفًا، إذ إن نزعة التملص والانقسام دونها عقبات فائقة التعقيد، ونزعة الهيمنة دونها تاريخ وجغرافيا وتنازع دول وصراع مصالح.

ومن المحزن فعلًا أننا، في ظل الأطروحات المستحيلة، لا نجد مشروعًا تسوويًّا ناضجًا قابلًا للتفاوض والتشاور. ربما لم يحن أوانه بعد بسبب موازين القوى الخارجية والمحلية، إذ إن الموسم الدولي والإقليمي ما زال يتعرّض لعواصف وزوابع تتخللها رعودٌ نووية وشره جغرافي، ووجل من تغيير الخرائط. وهذا تفسيره عندنا أن من يدعو إلى “تحرير الدولة من الهيمنة الإيرانية” لا يملك وسائل تنفيذ دعوته، وأصحاب “القوة الفائضة” يدركون السقف السياسي المحدود في الوقت الراهن، بحيث لا يبقى للشعب إلّا التحلّي بأعلى درجات رباطة الجأش لتَجُنُّبِ الألغام الكامنة وراء كل يوم من الستين الباقيات، بما فيها لغم “سحب التكليف” أو “البقاء في بعبدا”، فكلاهما مُدَمّران للوطن، ومَن يُبشّر بأيٍّ منهما، يشبه مقامرًا فَدَحَت خسارته، وظل يأمل بتعويضٍ ما، فرَهَنَ من أجله ساعته وخاتم زواجه، وحتى أجرة عودته إلى البيت بعد إغلاق صالة الروليت.

إن الدعوة إلى استقلال فئة من اللبنانيين عن البرنامج الإيراني، مشوبة بتبسيط واستسهال، وتأخذ الاشتباك السياسي إلى مزيدٍ من التعقيد لا تفيده نوستالجيا العودة إلى الوديان، وزرع الصخور، وعشرة النسور. فكما خرجت فينيقيا من ضيق الشريط الساحلي إلى ملك المتوسط كله، هكذا، من أعماق الوديان تلك، ومن معاقل الجبال، وَجُبَّة الثلوج خرجت دعوة الإكليروس الماروني إلى التعليم الإلزامي تمهيدًا لحياة مُتطوّرة تصل الأرياف بالمدينة، وتحترم رغبة الأنهار في الذهاب إلى شاطئِ ملح. فكيف نعيد الرحبَ إلى الضيق؟ كيف نفك عُرا الماء ما بين بحر ونهر عند التقاءِ الموجتين في مصب؟ أم كيف نُرجعُ الأرجوانَ إلى صَدَفةٍ في قاع اليَمّ؟؟ إن الناسَ لا يختلفون أجناسًا وأعراقًا، بل يتفاوتون في المستويات الاجتماعية والثقافية بسبب تفاوت معيشتهم ومُقَدَّرَاتهم ومواردهم، وما سوى ذلك لا يعدو كونه قصيدة قديمة ليس من يُصفّق لها حتى في حفلات أعراس القرى، أو هو حمأة كلام كان من أدوات الحرب الأهلية التي أصبحت رمادًا خامدًا، وما زال النافخون فيها يتوهّمون أن في باطنها جمرًا وَوَقْدًا. معنى هذا أن البحث عن حلٍّ فئوي غاضب، هو صرخة في أودية ومَضيَعة للوقت والفرص، ومناجاة لصفاء فئوي مزعوم، ما زالت ذاكرته مُلطّخة بتسافك دماء الطائفة الواحدة في ظل صليب “مشطوف” وإلغاء معروف، سعيًا لهيمنة متوهّمة ما استتبَّت يومًا لأحد.

أعودُ إلى عَلِيلِنا الذي لم يفارق الحياة حتى الآن، فأعلن ثقتي بأن وسائل العلاج لم تُستَنفَد بعد، بل أجزمُ أن أطباءه المفترضين كانوا يزوّدونه بالعقاقير السامة لا الشافية التي  في متناول اليد منها كثير. فلبنان الكبير الذي أُعلِنَ قبل قرن ونيف، رُغم معادلته الصحيحة نظريًّا، كان بمثابة جلباب واسع، لم تعتنِ الطبقة السياسة المسيحية بمغابنه كلها، ولم تصن قُطَبَه وعُراه، ولا استبدلت أزراره المقطوعة، بل اكتفت بشراكةٍ قلقة، يومَ كان في مقدورها أن تستثمر رِيادتها في الكيان الجديد، لترغيب الطوائف الأخرى في القبول بالدولة الناشئة من خلال تنمية موسّعة، تمنع استمرار الفجوة بين المركز المسيحي والمدى الحيوي ذي الغالبية المسلمة، حتى استفحل المأزق بينهما، فهبت عواصف الاحتراب الأهلي، مشحونةً برياحٍ خارجية وصارت الأعاصير سيّدة المناخ اللبناني، ففقد المركزُ سيطرته على الأطراف وتاهت هذه عن مركزية الدولة.

وعلى الرُغمِ من هذا كله، فإن حقيقةً ترسَّخت في الواقع والسلوك وهي أن دولةً ذات حدود مُعتَرَف بها، كانت من مؤسّسي الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ولها دستورها وصحافتها ونوابها وتوهجها الثقافي وقضاؤها وقوانينها واقتصادها ونظامها المصرفي وجيشها، وقد تخطت المئة عمرًا، فأنبت لها الزمان تقاليد راسخة في النفوس، وصارت نسبًا وانتسابًا وحيدًا… هذه الدولة ولو كان جلبابها أضيق من طموحات المسلمين العروبية، فإن التملص من هويتها ذهاب أكيد إلى أبشع أنواع المهانة.

ومَن يُتابِعُ يجد أن العقل المسيحي الواعي لم يعد يُعوِّل على أمٍّ حنون أو مظلات دولية، بل عادت مقولات كثيرة إلى الحقيقة الثابتة وهي أن الدولة اللبنانية أول الملاذ وآخره، ومُبتدأ الأشياء وخبرها. كذلك عاد السُّنَّةُ من هزائم العروبة التي أثخنها الاستبداد، فأيقنوا أن “لبنان أولًا” هو دورهم الأكبر في خدمة العروبة وأن التفريطَ به ضربٌ من الحرام وقلة التبصّر، كما لم يكن للدروز يومًا إلّا الحفاظ على وجودهم والتمسّك بسياسة بيضة القبان التي لا محلّ لها في “كانتون” تتنازعه جيولوجيا المذاهب المحيطة، بل في دولةٍ كاملة العناصر.

ربما كان جبل عامل يخوض الآن تجربته الخاصة كما فعلت الطوائف، وذلك لدور أهله في المقاومة وتحمّل مآسي الاعتداءات الصهيونية، وللدعم الظاهر من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ما جعله راهنًا جبلاً متقدمًا على صنين والمكمل والباروك، لكن المآل الذي نأمل ألّا يطول، سيفضي إلى أن “الخطاب” لا يمكن أن يتخطّى الجغرافيا، فجبال لبنان سلسلتان ثلجيتان تمدّان أوديتهما بالأخضر، وتُسيِّجان الدولة بالتكامل الحدودي والمجتمعي،  فهل يتقدّم جبلٌ على آخر، طولًا أو عرضًا، وجميعها من جِبِلَّة هذه الأرض وترابها الوطني؟!

إن مئة عام كانت كفيلة بصهر اللبنانيين في معاناة أزماتهم، وهذا تأكيدٌ على وحدة المجتمع ولو بالوجه السلبي، أما الوجه الإيجابي فهو الحفاظ على شكل الدولة ورمزها بانتظار نضج الظروف وهبوب الرياح المؤاتية، إذ لا يمكن ولا ينبغي لنا إلّا أن نُسارِعَ فورًا إلى تركيب بابٍ جديد للدار يحل محل باب الأعوام الستة الماضية، وإلّا نكون قد دعونا عن وَعي أو غير وعي، أصحاب الفضول والطُفَيليين والطامعين لانتهاك نسيجنا، فالهدف الأسمى هو إبقاء الدولة على قيد الحياة وذلك بتأمين الأمصال اللازمة وعبوات الأوكسيجين، والحدّ من النزف المتواصل، ووقف الالتهابات الخطرة، وذلك حفاظًا على جسدٍ ما زالَ قابلًا للشفاء في مرحلة مقبلة مُلائمة، وعلى هذا فإنني أناشدُ مَن عَنَيتُ في متنِ المقال أن يلتفّوا حول الواقعية السياسية فيختاروا حارسًا قضائيًّا نزيهًا يتولّى الحفاظَ على الدولة في حالتها الراهنة ترقّبًا لظروفٍ فضلى تنقلها من الحراسة إلى الرئاسة، وأن يكفّوا عن البحث عن رئيسٍ له

إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حاتمٍ

في حِلْمِ أحْنَفَ… في ذَكاء إياسِ”

لأن قائدًا بهذه الصفات موجودٌ فقط في قصيدة “أبي تمام” التي مدح بها الخليفة المعتصم.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى