هل بقيت في تونس دولة؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

هل بَقِيَت في تونس دولة؟ هو عنوان لمقال كتبه المرحوم مصطفى الفيلالي في جريدة “الصباح” في العام 2013 إبان حكم الترويكا، أو لنسمِّ الأشياء بأسمائها حكم حزب “النهضة”، الذي تَواصَلَ مُنفرداً أو بالشراكة والخفاء على مدى السنوات الثماني الأخيرة، بالصورة التي جعلته يُحاول بدون جدوى، أن يتخلص من مسؤوليته خلال كل السنوات التي حَكَم فيها بالاشتراك مع “نداء تونس” وآخرين، أو من وراء الستار مثل وزراء العدل والداخلية في حكومات متعددة وبخاصة في جكومة مهدي جمعة.

وفي الإعتقاد أن تدهور قيمة الدولة، كفكرة عامة وكمؤسسات، لم يكن مقصد “النهضة”، ولكنه التصرّف غير الواعي بجهلٍ كامل بمعنى مقوّمات الدولة، ومساراتها المُضرّة .

وإذ استرجع الباجي قائد السبسي المعاني الظاهرة والخفية لقيمة الدولة، رغم الهنّات الكبيرة التي أُقتيد إليها، ومنها تحطيمه لحزب كبير أسسه، على مذبح رغبته الطاغية في تصعيد ابنه حافظ ربما لوراثته، فإنه مات وترك مفهوم الدولة كما توصف به في العلوم السياسية غير راسخ في تونس، وهو ما نجني ثماره المُرّة اليوم، وسواء كان الرئيس الراحل أوصى فعلاً الدكتور عبد الكريم الزبيدي بالترشح للرئاسة بعد إحساسه بقرب  أجله أم لا.

ومن هنا نشهد اليوم تصرفات طفولية. ورغم أن السياسة والأخلاق لا يتعايشان في غالب الأحيان،  فإن  الحد الأدنى لا بدّ أن يكون له حضور، وسنتوقف عند أمرين ظاهرين، ربما لا يقيم للغالب من الناس أهمية أو اهتماماً لهما، فهناك من لا يزال يعطيهما الأهمية:

أولهما أن للدولة نواميسها وأعرافها، لا مجال فيها للكره أو المحبة، ولا مجال فيها لاتفاق أو اختلاف، وخصوصاً لا مجال فيها للحقد، وأنه لا بدّ من انتظار الوقت المناسب لاتخاذ قرارات الإبعاد والإقالة.

ففي النظام الرئاسي تُمكن المسارعة باتخاذ قرارات معينة، لأن رئيس الدولة له القرار الأول والأخير، أما في الأنظمة البرلمانية وحتى المعدلة وبخاصة بالنسبة إلى بعض المواقع، فالأمر يفترض طريقة مرنة وسلسة، وموافقة ومراعاة سواء للواقع الموجود أو لكرامة المسؤولين الحكوميين.

وثانيهما أنه لا بد من احترام أشكال معينة، في القرارات التي تهمّ رجالاً أو نساءً خدموا الدولة، ولا بد من التعامل معهم بالصورة التي تقتضيها الأحوال.

وبداية بوزير الدفاع الذي هو رجل فوق الشبهات، فقد كان وزيراً للدفاع في الحكومة التي كان يترأسها الوزير الأول الباجي قائد السبسي سنة 2011، وقد تعهد مثل غيره من الوزراء في تلك الحكومة بعدم الترشح في أول انتخابات ستجري لمجلس تأسيسي منتظر، وهو ما أوفى به فلم يترشح. ولكن حمادي الجبالي رئيس الحكومة المُنبثق عن انتخابات المجلس التأسيسي، وهو ابن بلد عبد الكريم الزبيدي، طلب من وزير الدفاع المغادر آنذاك أن يبقى في منصبه، ولدينا معلومات مؤكدة أنه هو وحزبه “النهضة” كانا يرغبان بقوة في إبقائه في منصب وزارة الدفاع، وسنرى أن حركة “النهضة” كانت دوما  غير راغبة في هذه الوزارة على مدى الثماني سنوات الماضية، وقد أُحرِج الزبيدي أيّما إحراج، خصوصاً تجاه التزامه أمام الباجي قائد السبسي، وهو رجل وفاء وعند احترام تعهداته. ولكن معلومات أكيدة عندي منذ 2011 تفيد بأن الرئيس الراحل عندما علم بالأمر حلّه من التزامه من دون غيره، ربما لأمر في نفس يعقوب، وبغرض أن لا تسقط وزارة الدفاع في يد “النهضة”، التي كانت تغمز بقوة تجاه وزارتين سياديتين مهمتين وقتها، هما وزارة العدل ووزارة الداخلية، وقد نالتهما وادخلتهما منذ ذلك الحين في البوتقة في تقدير الكثيرين.

الذين يعرفون عبد الكريم الزبيدي يقولون عنه إنه رجل شديد الإستقامة، مُصابٌ بشيء من الزهد، خصوصاً وأنه فَقَدَ ابنه الوحيد وأمله في الحياة في حادث مرور، وهو ليس مِمَن يطلب جاهاً أو مالاً، ومعروف بأنه من أهل الثقة والكفاءة اللتين يجمعهما بصورة طبيعية.

غير أنه على ما يبدو معروف عنه أيضاً، أنه رجل عنيد، وغير قابل للإنحناء لأيٍّ كان.

ولقد كانت وفق التقديرات التي كانت تبلغنا، أن علاقاته لم تكن سيئة مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، رغم ما يراه فيه من عدم وفاء، تجاه الرجل الذي صنعه من لاشيء أي الباجي قائد السبسي.

ولكن كان هناك سببان لتدهور هذه العلاقة، فقد كان كلٌّ منهما يعتقد أن الآخر حرمه من أن يكون رئيساً للجمهورية في الإنتخابات الرئاسية السابقة لأوانها. ويعتقد الشاهد أن الزبيدي لم يكن في الوارد أن ينافسه بالمطلق على المنصب، واعتقدَ وربما ما زال يعتقد أنه لولا ترشّح الزبيدي للرئاسة لحصد أصواته وأصوات منافسه، ولكان نجح منذ الدور الأول في الحصول على مرتبة أولى تؤهله للنجاح بكفاءة كبيرة في الدور الثاني أمام هذا ” الوافد الغريب” قيس سعيّد الذي لم يكن في الحسبان. ولو نجح في الدور الاول في اقتلاع مركز متقدم يؤهله للمرتبة الأولى، لكان حزبه ” تحيا تونس ” وهو ما يفكر الكثيرون في صحته، قد زحف بقوة كبيرة في الانتخابات التشريعية ولاقتلع بجدارة الموقع الأول إزاء “النهضة”، وإزاء “قلب تونس”، الذي ما كان له أن يترشح لا رئاسياً ولا تشريعياً، بفضل القانون الإقصائي الذي سنّه البرلمان، ووافقت عليه في غفلة من الزمن  الهيئة الوقتية لدستورية القوانين، و”رفض” قائد السبسي توقيعه.

غير أن “حقد”  الشاهد على الزبيدي لم يتوقّف عند ذلك الحد، بل ازداد حِدّة، ووجّه دعوة لكل الوسطيين الحداثيين لرص الصفوف في الإنتخابات التشريعية بعد “كارثة ” الإنتخابات الرئاسية. و”الزبيديون” الذين لم يكونوا مُنضوين تحت لواء حزب، ولكنهم تشكّلوا في مجموعة ضمّت قرابة 11 من الناخبين، اعتقدو جازمين أن الشاهد، الذي لم يتعوّد على ” الوفاء ” حتى أمام صاحب نعمته، لا يُمكن الإطمئنان على جانبه، فرفضوا كما رفض هو علانية، أن يضموا صفوفهم إلى صفوف ” تحيا تونس” بصورة تُمكّنه من نيل المرتبة الأولى التي كان يطمح لها في الانتخابات التشريعية. وإذ إن الأصوات التي حصل عليها الزبيدي في الدورة الأولى للإنتخابات الرئيسية ليست ملكاً له، فلو إنه أعطى حتى مجرد تمنيات بأن تذهب لحزب ” تحيا تونس ” فإن المؤكد أنه يكون في موقع أفضل في البرلمان.

غير أن للزبيدي بدوره مآخذ كبيرة على الشاهد، وهو — سواء كان ذلك صحيحاً أم لا — يعتبر نفسه مُكلَّفاً بمهمة من قبل الباجي قائد السبسي، فهو آخر رجل عمومي تقابل مع الرئيس الراحل، ويُقال إنه طلب منه الترشح لرئاسة الجمهورية للثقة التي يكنّها له. ربما مُعتَقِداً، إن صحّت هذه الرواية، أن شتات “نداء تونس”، سيصوت للرجل محل ثقة الرئيس السابق، وربما لم يكن هذا التحليل خاطئاً، فإن عدداً من قيادات  التنسيقيات التابعة ل”تحيا تونس” طلبت من مناصريها أن يصوّتوا للزبيدي، لا للمرشح الطبيعي للحزب الذي ينتمون إليه، ومن هنا قاربت النسبة التي حصل عليها الزبيدي قرابة 11 في المئة فيما كانت النسبة التي حصل عليها يوسف الشاهد حوالي 8 في المئة. ويرى أنصار الشاهد،  أنه لو لم يشوّش عليه ترشيح الزبيدي، لجاء في المرتبة الأولى في سباق الدور الأول، بينما يراها الزبيدي وأنصاره عكس ذلك، مُعتقدين أنه لو جرت انتخابات تمهيدية لمَن يُسمّون أنفسهم حداثيين، لجاء الزبيدي أولاً، ولحقّ له من دون غيره أن يكون اليوم رئيساً للجمهورية، ولكنه الغباء السياسي هو الذي حرمهم من تلك الإمكانية التي كانت في متناول اليد، وأن الشاهد هو الذي فوّت الفرصة، فلا فاز ولا ترك الزبيدي يفوز.

بعد البداية، يمكن  للمرء أن يمرّ على قضية خميس الجهيناوي، الذي يعتبره الكثيرون من المهنيين الناجحين ديبلوماسياً، ولكنه وصل إلى حدوده بتعيينه وزيراً للخارجية. غير أنه خدم البلاد بكل إخلاص وفي حدود الإمكانات التي يتمتع بها، وفي كل الأحوال فهو لا يستحق المعاملة التي عومل بها مع ما تحمله من احتقار لا يستحقّه، فهو إذا كان في حقبة من حياته قد مثل بلاده في إسرائيل، فهو كالجندي الذي لا يحقّ له أن يهرب من المعركة، عندما يُعيَّن لخوضها، ولم يكن أيامها في تسعينات القرن الفائت بالديبلوماسي المرموق اللامع، ليُقدِم على ما أقدم عليه مَن عُيِّن سفيراً لمصر في إسرائيل، وهو يجر وراءه ماض ديبلوماسي حافل، فيرفض المنصب، ويقفز إلى منظمة دولية مرموقة ينهي فيها حياته العملية.

فالموظف عموماً ومنذ دخوله الوظيفة العمومية يُصبح في وضع المُنفّذ للتعليمات، أو عليه الإستقالة وأحياناً القبول بالتشرّد. ومثل هذا التعيين ليس تطوّعاً – هذا ليس دفاعاً عن الرجل- وأنا أعرف سواء من طريق المرحوم ياسر عرفات أو الرئيس الحالي محمود عباس (أبو مازن) والمفاوض الفعلي في أوسلو، أن السلطة الفلسطينية الوليدة كانت تبحث عن سند، وأن سلطات أجنبية متعددة ومعينة كانت تدفع في ذلك الاتجاه ، لتبادل ممثلين، منهم من جاء إلى تونس، ورفض التونسيون تأجير بيت لإقامتهم فبقوا في الفنادق حتى انتهاء مدة ذلك الأمر، ونكوص إسرائيل باتفاقيات أوسلو.

إن تسيير الدولة أي دولة لا يقوم على العواطف ولا على الكره والمحبة، وخصوصاً لا على الحقد، ألم يكن من الأجدر حتى إن لم تُقدَّم استقالة، أن يطلب من غير المرغوب فيهم أن يقدموا استقالتهم، حفظا لماء وجههم، فلهم عائلات ولهم أصدقاء ينبغي الحفاظ على مشاعرهم، كما هو الشأن في الدول التي تقوم على قِيَم.

وفوق هذا وذاك يبدو وأن لعبة أطفال تجري في أعلى مستويات الدولة، وإلا ماذا كان  يضير لو تم الانتظار أسابيع، فيوسف الشاهد، وأمام استحالة تعيين وزراء بالأصالة، لعدم وجود برلمان، وحتى في حال وجوده لا يملك أغلبية 109 أصوات، لا يمكن أن يحكم بالنيابات الوزارية وقد تكاثرت في عهده وفاض كأسها، وهي لا تعتبر بحال علامة صحة.

والحالة الوحيدة التي يذكرها لنا التاريخ المعاصر هو ما جرى لرجل الدولة الكبير إسماعيل خليل، بعد الموقف الذي اتخذه في اجتماع الجامعة العربية، على إثر الاجتياح العراقي للكويت، حيث أبقي في بيته 26 يوماً،  قبل أن يُعيّن عبد الرحيم الزواري خلفاً  له من دون أن يُذكر اسمه ـ إسماعيل خليل ـ البتة. فلم يُدعَ للإستقالة ولا سُمِح له بالاستقالة ولم يقع إعفاؤه، كل ذلك قبل أن يقع اللجوء إليه ليذهب سفيراً إلى واشنطن،  لرأب الصدع في العلاقات مع الولايات المتحدة التي تضررت أي ضرر أيامها مع الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

  • عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم. كان رئيساً لتحرير صحيفة الصباح التونسية. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى