من يتحمّل دمّ الليرة؟

بقلم فيوليت غزال البلعة*

فيما فتح “قصر الشعب” في لبنان أبواب “اللقاء الوطني” أمام فريقٍ من سياسيين ارتضوا أن يؤمّنوا الغطاء الكافي لرئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، من أجل إكمال ولاية تتعرّض لمطالبات بتقصيرها، يزدحم الشارع الشعبي بالأزمات والهموم والهواجس خوفاً من الغد، في ظل سباقٍ ماراتوني يخوضه الدولار الأميركي مع الليرة اللبنانية، ليلامس ما كان لا يجرؤ أحدٌ في السابق على التفكير به من سقوف “خيالية”، ضارباً عرض الحائط تورّم التضخّم مُلتَهماً قدرات شرائية تقاعست أمس عن حجب “رعب” ثلاجاتها الفارغة أمام أعين العالم عبر عدسة وكالة الصحافة الفرنسية “فرانس برس”.

مراراً وتكراراً، تعدّدت مُسبّبات الأزمات وبقي العجب من عصيان الحلول والمعالجات. فسادُ المنظومة الحاكمة ولَّد ممارسات شاذة لسياسات استعادة الثقة المحلية والخارجية، وأنتج مناخات مُعاكسة لكلّ مُكوّنات النمو الإقتصادي، فحلّت مصيبة أزمة السيولة، وحلّق الدولار مُتفلّتاً من ضوابط مصرف لبنان، وترجمت خطة “حكومة المستشارين” المخاوف حين حصرت كلفة الخسائر بالمثلث المالي، عبر تخطيطها لإفلاس مصرف لبنان والقطاع المصرفي والمُودعين، بعد سابقة إبلاغ المجتمع الدولي بـ”تعثّر” لبنان مالياً.

لم يتوانَ الأمين العام لـ”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، في إطلالته الأخيرة، عن إتهام الولايات المتحدة بالتسبّب بأزمة الدولار، بعد كَيلِ إتهامات وجّهت المُسيّر من الإحتجاج الشعبي، صوب حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، وتحميله مسؤولية “التجاوب” مع واشنطن في ملف العقوبات المفروضة على مصادر تمويل الحزب بعد استهدافٍ أول لأمواله. وأيضاً، لم يتوانَ عن تكرار إصراره على قتالِ الأميركيين ودعم سوريا لمواجهة عقوبات “قانون قيصر” القاتلة، طارحا “الشرق” كمتنفس إقتصادي وتجاري بديل ضمن خيارات غير مُكتَملة القواعد والشروط البديهية، ليثير بذلك موجة سجال أضافت الكثير من التشابك على المناخ العابق بالخلافات من كل أنواعها.

بكلام آخر، أقرّ السيد حسن بأن “حزب الله” هو سبب مشكلة لبنان، حين دخل “جنّة” العقوبات التي أفقدته العديد من قنوات التمويل المباشر، فبات يبحث في دهاليز التهرّب والتهريب عما يكفل توسيع حجم انسياب المال والمعونات التي يحتاجها في الداخل، إلى أن أوقع لبنان، وبعد تعيينه حكومة حسان دياب، في فخّ العصيان على ما يتطلبه المجتمع الدولي من إصلاحات تكفل تدفق المساعدات والأموال لإعانته على الخروج من براثن أزماته.

حاول السيد حسن أن يوزّع كليشيهات المعنويات لتعزيز قدرات الصمود في وجه المعاناة اليومية، والتصدّي لمخططات الإيقاع بلبنان في أسر الإمبريالية الأميركية والغربية. لكنه أغفل أن الدولار إرتفع نحو ألفي ليرة في أقل من أسبوع، أي من حين إطلالته التلفزيونية الأخيرة ولغاية اليوم، حيث غلبت الخيارات الإستراتيجية على ما يقضّ مضاجع اللبنانيين من هواجس واقع الجوع والفقر والبطالة.. والمستقبل المجهول.

يعزّ على اللبنانيين ألّا يصمدوا في وجه ضائقات تعدّد مرورها عبر التاريخ، وأثبتوا أن أسطورة “طائر الفينيق” لم تكن مجرد خرافة تدلّ على الإرادة والعزم والتصميم. لكنهم فقدوا اليوم، وبعد سلسلة أزمات واستحقاقات، ما كانوا يتسلّحون به لجبهِ كل تلك الصدمات. صحيح أنهم آمنوا بلبنان وطناً أبدياً سرمدياً لهم ولأبنائهم، لكنهم أفاقوا من “غشوة” الزبائنية والتبعية فجأة، ليجدوا أنفسهم على قارعة المصرف يستجدون قرشاً أبيض أودعوه لمثل هذه الأيام السوداء.

لم يعد اللبنانيون كما كانوا في السابق. لم يعد يهمّهم ما تقول المنظومة الحاكمة، لأنها تضمر خلاف ما تُعلن. لم يعد يكترثون للقاءات وإجتماعات اللجان، لأن التجارب أفقدتهم الثقة بما يرون بعدما باتت الحاجة الى تلمّس الإنجازات في أبواب فرج، تبدأ من إعادة الليرة إلى عقالها، وانتظام العمل المصرفي بودائع يُعاد تكوينها مجدداً، وبإصلاحات حقيقية قادرة على لجم حجم الفساد والإهدار، وأقوى من قدرة المعابر غير الشرعية على تهريب ما يدعمه مصرف لبنان من دولار اللبنانيين، فضلاً عن منظومة الإصلاحات المعروفة والتي يُذكّر بها صندوق النقد الدولي قبل كل جلسةِ تَفاوض وبعدها، ومنها أولاً، إصلاح قطاع الكهرباء، وترشيق حجم القطاع العام، وتحرير التعيينات القضائية من أسر السياسيين لما يشكل ذلك من عامل اطمئنان يتطلبه مناخ الإستثمار والأعمال…

من اللقاء الوطني في بعبدا، لم يخرج ما أمل به اللبنانيون. فهم كانوا يتطلعون الى إعلان حال طوارئ مالية، لمّح اليها امس رئيس مجلس النواب، نبيه بري، وما من أحد تلقّفها. الحوار السياسي شيء، والمُعالجات على الأرض شيء آخر. فالتصريحات والبيانات لا تُصرف في “السوبر ماركت”، ولا تُشبع أفواهاً جائعة، ولا تملأ ثلاجات فارغة مُتعطّشة إلى موادٍ غذائية اندثر بعضها وزال عن لائحة المشتريات اليومية.

اليوم، أعلنت تطبيقات مُتفلّتة من رقابة القضاء، أن الدولار لامس سقف الـ8 آلاف ليرة بيعاً. تشييع مثل هذا السعر، وإن كان من جهاتٍ عاصية على الضبط والإنضباط، كافٍ لإحداث غليان في مشاعر الحنق والغضب من منظومة سياسية ما زالت تُكابر وتتعالى عن أبسط حقوق العيش بكرامة وعزّة.. فمن يتحمّل جروح السيولة التي فُتحت ونغصّت معيشة اللبنانيين؟ هل تطرق “اللقاء الوطني” إلى موجة الهجرة الآتية لا محال، حالما تتحرّر الإقتصادات من بعض تداعيات “كورونا”؟ هذا هو “لبنان الجديد” المعادي للمجتمع الدولي والمعزول عنه، الذي “قرّر” السيد حسن أن يأخذ اللبنانيين اليه من دون سؤالهم عما اذا كانوا يرغبون في تحويل وجهة لبنان من “سويسرا الشرق” إلى “فنزويلا الشرق”؟ هل يتحمّل السيد نصرالله دمّ الليرة اللبنانية الذي أُريق على يدّ الدولار الأميركي؟

تساؤلات ستبقى حتماً بلا الشافي من الإجابات… قبل أن يغتنم المستقبل القريب هذه الفرصة!

  • فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية. يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي يُنشَر عليه في الوقت نفسه هذا المقال: arabeconomicnews.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى