داناي… والدُموعُ الخَصيبة

هنري زغيب*

في حديثٍ مع داناي عن لفْح النُور الشاحب في الشتاء – وهي تُسمِّي المطر “دموع الشتاء” – تباسَطْنا القول عن الدموع فقالت داناي إِنها “مُطَهِّرة خصيبة”، وإِنها “دموع الحياة وقيامتها من الـمَوَات”.

Il va pleurer, mais des larmes fécondes de renaissance et de vie… Des larmes purificatrices.

كيف الدمع يُحيي، يُخصب، يُطَهِّر؟

راحت داناي تشرح:

دموعُ الطبيعة تَسقي الأَرض العطشى فتُشفى من يباسها وتَشهق من خصوبةٍ تتجدَّد فيها المواسم فتكون بيادرُ، وتكون غلالٌ، وتكون معافاةً في عطاءَاتها دورةُ الفصول.

دموعُ الصباح ندًى على شفاه الزهور تَسقي عطش الأَوراق إِلى نضارةٍ تحييها فَتَنْدَهُ إِليها قبلات الفراشات الصباحية قبل أَن تغدو إِلى أَشغالها، وقبلات النحلات التي تحط عليها لتبدأَ أَشغالها.

دموعُ الأَطفال تَسقي رغبتهم في نيل ما يرغبون إِليه، أَو حُزنهم من حرمانِ ما يرغبون، فالدمع في عيون الصغار تعبير لا تعرفه اللغات ولا تحصره قواميس.

دموعُ التوبة تَسقي نقاء الندم حين يتوب العاشق عن زلةٍ أَو هفوةٍ أَو انزياحٍ يهدِّد الحب بصدمة الحبيبة حين تكتشف أَن الشفافية انجرحَت بتصرُّف أَتاه العاشق، عفوًا أَو عمدًا، بسيطًا أَو مبسَّطًا، فيجيْءُ دمعه شموعًا على قدَمَي الحبيبة تمشحها بطهر نواياها فتُزيل منها اللحظات المالحة.

دموعُ الغياب تَسقي حرقة الأُمهات قهرًا على فقدان ولدٍ، والأَيامى على فقدان حبيب، في حادثة أَو فُجاءَة أَو انفجار أَو مصادفة طائشة، فيكون دمعهنَّ تَطَهُّرًا لهنَّ بين فاقة الغياب وطاقة الاحتمال. تَطَهُّرُ النفْس عزاءٌ مستدام.

دموعُ الوداع تَسقي الغصَّة التي يطبعها في البال الغياب الدائم، فيصبح الغياب حضورًا مُوجعًا لا إِلى انقضاء… وأَيًّا يكن، قسريًّا أَو فاجعًا، هذا الوداع، يبلِّله الدمع فيُبَلْسم قسْوة الانفصال.

دموعُ الفرح تَسقي لحظات السعادة الغامرة، قلبًا أَو بهجةً أَو مفاجأَةً أَو ولادةً أَو انتظارًا، فتنهمل الدموعُ حافيةً على خدودٍ تتسع لرحابة اللحظات تعبيرًا في عَبَراتٍ لا تعادلُها عِبارات.

دموعُ الحب تَسقي شقوق الحالات الصعبة حين تشوب الحبَّ لحظاتُ حزن أَو عتاب أَو شكوك أَو أَخطاء تهدِّد الحب وتوصله إِلى شفير فقدانه، فتكون الدموع الصادقة خلاصًا إِياه من أُويقات الحزن وكلام العتاب وحقيقة الشكوك وامّحاء الأَخطاء، بالسماح عن خطإٍ والغفران عن خطيئة.

دموعُ الولع تَسقي بُعادًا كي يزول، أَو عنادًا كي يدول، أَو جهادًا كي يؤْول، نحو طريق الوصول إِلى فوق، إِلى القمة التي دائمًا يرنو إِليها العاشقان أَن يبْلُغاها ليعيشا معًا في حَـرَم الحب، فتنتفي لحظات التوجُّس من أَلْسِنة السُوء، والحذَر من عيون الأَولياء والحرَّاس.

دموعُ المرأَة تَسقي حرارةَ اللحظة، شَعَّةً من قلبها، أَو مرآةً من فكرها، أَو صوتًا من جمالها. دمعُ المرأَة حنانٌ آخر.

دموعُ الرجل تَسقي عُريه من رجولة مزيَّفة، تَشفيه من طاوُوسيته ونرجسيته وكبريائه وعناده، وتُعيده رهافةَ اقتبالٍ، وسعيًا إِلى مقاربة السوى في انفتاح أَجمل.

… وسكتَت داناي عن استرسال، فلمحتُ في صمتها خيالاتٍ تُردِّد أَصواتَ دموع تَسقي لحظاتٍ في العمر خصيبةً تَلفحُ وجه الحب، كلِّ حب، أَيِّ حب طاهر صادق، فتُحييه بدمعة تشفيه من آخِ المجهول.

هكذا… لا يعود الدمع مَوَاتًا، بل قيامةً مُـحْـيِـيَـةً من كلِّ مَوَات، في رعشاتِ حياةٍ تَتَبَرعَم عُمرًا هانئًا كالذي تَـمنَحُنِيْهِ داناي منذ جمعَني بها القدر حبًّا غامرًا إِلى آخر العمر.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى