من بطَلَةٍ عالميّةٍ إِلى خادمةٍ في مطعم
هنري زغيب*
في أَواخر القرن التاسع عشر نشأَت ظاهرةُ امتطاءِ المرأَةِ الدرَّاجةَ، وارتداءِ الملابس الذكورية، وابتغاء الحريات الشخصية والاجتماعية، فنشأَت معها ظاهرة التَوق إِلى المساواة بين المرأَة والرجُل، ما أَثار غيرة مَن انبرَوا يهاجمون هذا “التحرر” الذي “يهدد” ذكوريتهم.
55 كلغ ترفع 300
حين اشتُهرت الكَنَدية لويزا آرميندو (Armaindo) (1861-1900) ذاتَ بُنْية متينة تزاول التمارينَ الرياضية القاسية، والمشيَ مسافاتٍ طويلةً، وامتطاءَ “الدرَّاجة الكبرى” (دولابُها الأَماميّ كبير جدًّا والخلفيّ صغير جدًّا لتأْمين سرعةٍ زائدة قُصوى)، أَثار ظهورُها جدَلًا بين معاصريها، لكنها برغم الجميع حملَت لقب “بطلَة العالم في سباق الدرَّاجات”.
منذ نشْأَتها في قريتها الصغيرة سان كليه (Saint-Clet) في ضاحية مونتريال، بانت لافتةً بعضلات مفتولة نادرًا ما تكون بجسمها ووزنه 55 كلغ وطولها 1،59 مترًا. كانت والدتها تزاول الأَلعاب البهلوانية في سيرك، ووالدها تاجرًا متجوِّلًا كثير الأَسفار، فنشَأَت تزاول مهنة أُمها. ومع الوقت بلغَت من قوَّتها البدنية أَن كانت تستطيع، بحزمة حبال، أَن ترفعَ بأَسنانها رجلَين عن الأَرض لمدة دقيقة، وأَن ترفع من الأَثقال 300 كلغ. لكنها تعبَت من هذا العمل المضني الخطِر وغيرِ المربح، فغادرت كندا سنة 1874 واستقرَّت في شيكاغو.
بعد أَشهر من وجودها هناك الْتَقت المدرِّب الرياضي الكنَدي طوم إِيك Eck سنة 1875 حين كانت تقوم بحركات رياضية جريئة في “سيرك شيكاغو”. وكان ذاك اللقاء مفصليًّا إِذ أَخذا يزاولان معًا رياضة المشي لمسافات طويلة وأَصبح مدربَها ومديرَ أَعمالها، وبدأَت تشارك في مسابقات مشي المسافات الطويلة في عدد من المدن الأَميركية.
الدرَّاجة الكُبرى
في تلك الحقبة درجَت في صفوف الرياضيين ظاهرة “الدرَّاجة الكبرى” رياضةً شعبية، فتمرَّنت لويزا عليها وأَخذت تشارك في سباقاتها أَولًا مع الرجال ولاحقًا مع نساء دخلْن هذه المسابقة اللافتة عهدئذ.
سنة 1882 تبارت لويزا في بوسطن مع الدرَّاج الشهير عصرئذٍ جون شِلِنْغْتُون پْرِنْس (1857-1927) لمسافة 50 ميلًا (80،5 كلم) بعدما أَعطاها فرصةَ أَن تنطلق قبله لمسافة 5 أَميال. تسابقا متلازمَين معظم المسافة حتى وصل پْرِنْس قبلها بدقيقة واحدة فقط. سوى أَنها بعدذاك حلَّت الأُولى في سباقها مع الدرَّاجة الأَميركية إِلْسَا ڤون بلومِن (1865-1935)، كما حلَّت أُولى لدى السباق الدولي في مدينة ريدْجْواي پارك (ولاية فيلادلفيا) لتتكرَّس “بطلة سباق الدراجات للنساء”، فكانت أَول امرأَة تحمل هذا اللقب الذي كان حتئذٍ محصورًا بالرجال. وتتالت اشتراكاتها بالسباقات الداخلية (ضمن قاعة رياضية كبرى) أَو في الهواء الطلق، وتنافست مع رجال ونساء أَخذ عددهم يزداد مع السنوات.
سباق 6 أَيام متتالية
اشتهرت كذلك بمشاركتها في سباقاتٍ تَجري لأَيام متتالية، يتبارى فيها المشاركون ساعاتٍ طويلةً في اليوم الواحد، يفوز مَن يجمَع مسافات أَكثر خلال أَيام السباق. وسنة 1883 كسرت لويزا الرقم القياسي في سباق من 6 أَيام في شيكاغو بمعدَّل 12 ساعة في اليوم/19 كلم في الساعة الواحدة طوال 72 ساعة، جمعَت خلالها مسافة 843 ميلًا (1356 كلم)، متفوِّقة على درَّاجَين مشهورَين فترتئذٍ: وليم وُوْدْسايد ووليم مورغان.
تلك السنة ذاتها، في مدينة ميلْووكي (ولاية وِسكونسِن) شاركت في سباق ثلاثة أَيام بمعدل 6 ساعات في اليوم ففازت على خصمَيها الوِلْيَمَين التقليديَّين. وبين 15 و20 نيسان 1884 حاولَت “الانتقام” في سان فرنسيسكو من منافسها القديم جون شِلِنْغْتُون پْرِنْس في سباق 72 ساعة فتعادَلَا، قاطعَيْن 1726 كلم بمعدل 24 كلم/ساعة. وبعد سنتين (1886) فازت في مينياپوليس على بطل السباقات فْرِدْ شو في سباق 26 ساعة .
درَّاجة واحدة وسائقان
وزاولت لويزا السباق على درَّاجة يقودها درَّاجَان. وفي 29 أَيلول/سپتمبر 1886 أَعلنت مجلة ” الدرَّاج” أَن “لويزا آرميندو حقَّقَت رقمًا قياسيًّا جديدًا في سباق 24 ساعة مع زميلها على الدرَّاجة وليم مورغان بقطْعهما 250 ميلًا (403 كلم)”، وعادت في السنة ذاتها ففازت مع زميلها مورغان كذلك بسباق 100 ميل قطعاه دفعة واحدة بدون توقف في سبع ساعات و57 دقيقة متواصلة.
مع السنوات برزت متسابقات أُخريات، وضَعُف وهْج لويزا فخسِرت السباق أَمام جيسي أُوكس (نيويورك 1889)، وأَمام ليلي وليامز سنة 1892 في مدينة شيفيلد (إِنكلترا)، فقرَّرت أَن تضع حدًّا لمشاركتها في السباقات وأَن تعتزل هذه الهواية.
هكذا سنة 1893 انسحبَت من السباقات خصوصًا ومن الحياة الرياضية عمومًا، ووجدَت عملًا متواضعًا لها: خادمة لدى مطعم صغير في مدينة مينياپوليس (ولاية مينيسوتا) وتوفيَت سنة 1900 وهي لم تُكمل التاسعة والثلاثين.
الخاتمة الحزينة
بعد اعتزالها نشرَت مجلة “العالم الرياضي” مقالًا جاء فيه: “تسابق الكثيرون في أَميركا على ريادة سباق الدراجات. لكن نساء قليلات جَرُؤْنَ على منافسة لويزا آرميندو في الريادة النسائية. فهي أَول امرأَة حملت لقب “السيدة الدرَّاجة”، وتنافست مع درَّاجين ودرَّاجات وحملت لقب “ملكة الدرَّاجة”. ولكن… ها هي اليوم ملكة سابقة لا تقطع سوى بضع خطوات ضئيلة خادمةً في مطعم صغير من مينياپوليس. فما أَصعبَ أَن نرى نهاية ملكة مهزومة بهذا الشكل القاسي”.
في بعض المراجع أَنها تزوَّجت من مدربها ومدير أَعمالها طوم إِيك نحو 1884. لكن مقالًا صدر في “نيويورك تايمز” (6 تشرين الأَول/اكتوبر 1888) يناقض ذلك ويذكَر أَن “طوم إِيك تزوَّج من صبية جميلة صغيرة السنّ في مينياپوليس”. ومهما تكن الحقيقة، أَن تكون تزوَّجتْه أَم لا، فهو كان ذا فضل كبير عليها مدرِّبًا ومشجِّعًا ومدير أَعمال.
منذ ثلاثينات القرن الماضي غابت لويزا آرميندو كلِّيًّا عن كتُب المؤَرخين الرياضيين ومجلات سباق الدرَّاجات، فغرقَت في النسيان تمامًا، بعدما كانت هي الحدَث الباهر طيلة عشر سنوات من رياضة المشي الطويل وسباق الدراجات.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.