الإحتجاجاتُ في الجزائر توقّفت بسبب “كوفيد-19” فيما وجدها النظامُ فُرصَةً لتصعيد القمع

يبدو أن الحكومة الجزائرية المدعومة من الجيش وجدت في الإغلاق الذي فرضته على البلاد بسبب وباء كورونا المُستَجد فرصةً لتصعيد القمع ضد الحراك الشعبي.

 

الرئيس عبد المجيد تبون: واجهة للجيش الجزائري.

 

بقلم فرانسيسكو سيرانو*

تُشكّل جائحة كورونا تحدّياً لنظام الرعاية الصحية القديم المُترهّل في الجزائر، حيث يقترب عدد الحالات المؤكدة من كوفيد-19 من 45,000 حالة، مع حوالي 1500 حالة وفاة. ولكن بدلاً من الفيروس نفسه، فإن استخدام النظام الجزائري للوباء لقمع المعارضة الشعبية هو الذي يدفع بالبلاد إلى أعمق أزمة. إنتهزت السلطات حالة الطوارئ الصحية العامة لاعتقال النشطاء وتضييق الخناق على تدفق المعلومات، وهي إجراءات من المرجح أن تؤدي إلى تفاقم المأزق السياسي الطويل الأمد في الجزائر.

كان المتظاهرون المُناهضون للحكومة الذين يطلقون على أنفسهم الحراك، يخرجون إلى الشوارع أسبوعياً منذ شباط (فبراير) 2019 – في البداية للإحتجاج على محاولة الرئيس الثمانيني المريض عبد العزيز بوتفليقة الترشّح لولاية خامسة، وبعد استقالة بوتفليقة بعد أشهر، للمطالبة بإصلاح النظام السياسي الراسخ بأكمله. لكن بسبب الوباء، لم يُنظّموا أي احتجاج منذ 13 آذار (مارس). بعد أيام قليلة من تلك المظاهرة الأخيرة، أغلق النظام الحدود الجزائرية كما المدارس والمساجد والمقاهي، ومنع التجمّعات الإجتماعية. وتم ّتنفيذ تدابير أكثر صرامة في وقت لاحق، مثل الإغلاق المؤقت وحظر التجوّل، في المناطق الأكثر تضرّراً من البلاد. عكست هذه التحرّكات الإجراءات التي اتّخذتها الحكومات في جميع أنحاء العالم.

لكن بعد ذلك، تحت غطاء الوباء، صعّد النظام حملة القمع ضد منتقديه. بحلول نيسان (إبريل)، وقّع الرئيس عبد المجيد تبون قانوناً جديداً يُجرّم نشر “الأخبار الكاذبة”. يُمكن للعقوبات بموجب هذا القانون، والتي تستهدف وسائل الإعلام ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي على حد سواء، أن تصل إلى السجن لمدة خمس سنوات وغرامات تصل إلى 3,900 دولار. تمّت بالفعل محاكمة العديد من النشطاء والصحافيين البارزين بموجب القيود الجديدة، وحُظِّرَ الوصول إلى العديد من المواقع الإخبارية المستقلة داخل الجزائر.

لا تقتصر أهداف هذه الإجراءات على منتقدي طريقة تعامل الحكومة مع الوباء. في الواقع، يقول الخبراء إنها تهدف أساساً إلى تشويش احتجاجات الحراك قبل أن يتمكّن أي شخص من العودة إلى الشارع. أخبرني مراد أوشيشي، أستاذ العلوم السياسية والإقتصاد في جامعة بجاية، شمال الجزائر: “خلال الأزمة الصحية، طبّقت الحكومة الإجراءات التي لم تكن قادرة على تنفيذها من قبل. لقد اختار النظام إعطاء استجابة أمنية لأزمة صحية”.

تُشكّل حركة الحراك الإحتجاجية تحدّياً غير مسبوق لقادة الجزائر، ولا سيما الجيش، الذي يُسيطر فعلياً على جميع مواقع السلطة العليا في البلاد. بعد انطلاق الإنتفاضة الشعبية في العاصمة الجزائر، سرعان ما انتشرت في جميع أنحاء البلاد، حيث طالب المتظاهرون بإنهاء النظام الغامض بقيادة الجيش الذي يحكم الجزائر منذ استقلالها عن فرنسا في العام 1962.

عندما وجد الجنرالات الجزائريون أنهم في موقف حرج ومسدود الأفق، دفعوا إلى إقالة بوتفليقة في نيسان (إبريل) 2019. وعلى عكس رغبات المتظاهرين، أجروا انتخابات رئاسية في أواخر العام الفائت لتحديد بديله. وقد روّج النظام للفوز المُثير للجدل لتبّون، البالغ من العمر 74 عاماً، وهو رئيس وزراء سابق خدم في عهد بوتفليقة، كردٍّ على المظالم الشعبية وبداية حقبة جديدة.

لكن الجزائريين لم يقتنعوا بهذه الرواية أبداً، وهم يعلمون جيدا أن أي انتخابات رئاسية يُجريها النظام ستُعطي تغييراً وهمياً. وأظهرت الأرقام الرسمية أن نسبة المُشاركة بلغت 40 في المئة، وحصل تبون على 58 في المئة من الأصوات. ومع ذلك، قدّر مراقبون مستقلون مستوى المشاركة بما يقارب ال10٪ فقط.

تبّون، مثل كل أسلافه تقريباً، لا يزال الواجهة المدنية التي تسمح للجيش والأجهزة الأمنية بحكم البلاد من وراء الكواليس. بعد تنصيبه، أطلق سراح بعض المعارضين وتعهّد ببدء حوار مع أعضاء الحراك. لكن في الوقت نفسه، عادت قوات الأمن بسرعة إلى اعتقال المتظاهرين ومحاكمتهم في ظل حكمه.

تعمل الحكومة على تعزيز مظهرها الخارجي للشرعية السياسية من خلال خططٍ لإجراء استفتاء على التغييرات الدستورية، والمُقرَّر إجراؤه الآن في 1 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. دافع تبون عن التغييرات المُقترَحة كوسيلة لزيادة سلطة رئيس الوزراء والبرلمان. ومع ذلك، في الواقع، هذه الخطوة هي طريقة أخرى للنظام لإعطاء تغيير وهمي مع الحفاظ إلى حد كبير على الوضع الراهن. إن احتمال تصويت قلة من الجزائريين في الإستفتاء لا علاقة له بالإستبداد العسكري الذي اعتاد على إدارة الإنتخابات والحصول على النتائج التي يريدها.

الآن، تُواجه الحكومة القمعية، التي تُعاني من ضائقة مالية، جائحة غير مسبوقة، بالإضافة إلى المشاكل السياسية والاقتصادية الهائلة نفسها التي أجّجت الإحتجاجات في العام الفائت. كما هو متوقع، إنكمش الناتج المحلي الإجمالي الجزائري بنسبة 3.9 في المئة في الربع الأول من العام 2020، وفقًاً للأرقام الحكومية، ومن المرجّح أن يؤدي الانهيار الإضافي في أسعار النفط هذا العام إلى خسائر فادحة. ويُشكّل انتاج النفط والغاز نحو 93 في المئة من الصادرات و60 في المئة من الموازنة العامة للحكومة. إن سعر النفط، الذي يبلغ حالياً حوالي 45 دولاراً للبرميل، يجب أن يكون أكثر بثلاثة أضعاف بالنسبة إلى الجزائر لتلبية احتياجاتها في موازنة العام 2020.

وسط انخفاض الإيرادات، أعلنت الحكومة عن بعض الإجراءات الإقتصادية للتخفيف من تأثير الوباء، بما فيها تجميد ضرائب الشركات وتأجيل سداد القروض لبعض الشركات. كما وجّهت تحويلات نقدية بحوالي 80 دولاراً إلى أفقر الأسر، لكن هذا المبلغ لن يساعدها إلّا قليلاً. ومن المتوقع أن يؤدي كل هذا إلى زيادة عجز الموازنة الحكومية إلى 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. في غضون ذلك، دفع تراجع عائدات الطاقة الجزائر إلى حرق احتياطاتها من النقد الأجنبي، والتي تضاءلت إلى حوالي 62 مليار دولار اعتباراً من آذار (مارس)، من 97 مليار دولار في أواخر العام 2017.

إن الكثير من المأزق الإقتصادي الحالي ناتجٌ عن تقاعس الحكومة. لقد فشلت الحكومات الجزائرية المُتعاقبة في استخدام المكاسب السابقة من عائدات النفط والغاز، خصوصاً خلال سنوات ارتفاع أسعار النفط في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لبناء اقتصادٍ مُنتج. على الرغم من ضخ استثمارات كبيرة واسعة النطاق في برامج النقل والإسكان، إختار النظام ترك الجزائريين يعتمدون على الواردات الباهظة الثمن بدلاً من تطوير التصنيع المحلي وتحفيز القطاع الخاص. على الرغم من إمكاناتها الزراعية الهائلة، تُنفق الجزائر 9 مليارات دولار سنوياً على الواردات الغذائية وحدها.

لم يكن هذا الأمر مُصادفة. الإقتصاد المُعتَمِد على النفط يُفيد الجنرالات والأوليغارشيين في البلاد من خلال السماح لهم بإدارة وتوزيع عائدات الطاقة على النحو الذي يرونه مناسباً. علاوة على ذلك، لأن الجزائر تستورد كل شيء تقريباً، فإن النُخَب الحاكمة قادرة على جني مبالغ طائلة من خلال ممارسات محاسبية مشبوهة على الواردات، واللعب على الفرق بين سعر الصرف الرسمي للدينار الجزائري وسعره في السوق السوداء. والنتيجة بلد غني حيث غالبية السكان فقراء.

مع احتمال استمرار انخفاض أسعار النفط لبعض الوقت، من المرجح أن يصل الإقتصاد الجزائري إلى نقطة تحوّل. تُشير التقديرات إلى أن عائدات الطاقة، المُقدّرة بنحو 60 مليار دولار سنوياً قبل انهيار أسعار النفط في العام 2014، ستنخفض إلى 20 مليار دولار في العام 2020. ولدى حكّام الجزائر المُسِنّين أموالٌ أقل لإنفاقها على شبكات المحسوبية، ولا يوجد هامش تقريباً لتهدئة الاستياء الشعبي من الإعانات.

في حزيران (يونيو)، سُمِحَ لقطاع البناء وبعض الشركات بإعادة فتح أبوابهما، وتم تخفيف بعض القيود على السفر في أوائل آب (أغسطس). لكن من المرجح أيضاً أن تؤدي إعادة فتح البلاد إلى عودة المعارضة إلى الشوارع. “بمجرد أن تُستَأنف الحياة، سوف تعود حركة الاحتجاج. ربما في شكل مختلف في البداية، لكن من غير المرجح أن يختفي الحراك”، قال أوشيشي. وأضاف: “الخلاف بين المتظاهرين والنظام قد يصبح أكثر تطرفاً. كثيرٌ من الناس لم يعملوا منذ خمسة أشهر”.

ربما أدّت جائحة كوفيد -19 إلى إفراغ الشوارع مؤقتاً، لكن من غير المُرَجَّح أن تدفع الجزائريين إلى الإستسلام. ظلت مطالبهم، التي تمّ إعلانها سلمياً، كما هي عندما بدأت الاحتجاجات في العام 2019: إزاحة الجيش من السلطة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وانتخاب جمعية دستورية لإقامة نظام سياسي جديد.

من غير المتوقّع أن يستوعب النظام هذه المطالب، التي قد توجّه ضربة لبقائه. يتلاعب الجنرالات بالوقت، ويُصعّدون القمع بينما يأملون في ارتفاع أسعار النفط. لكن المأزق الحالي يؤكد فقط الحقيقة التي لا مفرّ منها وهي أن النظام الجزائري الراكد الذي دام عقوداً يقترب من نهايته.

  • فرانسيسكو سيرانو هو كاتب وصحافي ومُحلّل سياسي دولي.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى