لماذا تحوّلت سياسات مصر تجاه “حماس”؟

على الرغم من الحملة الدعائية المُمَنهجة، سابقاً، ضد حركة “حماس” داخل مصر، فإن نظام عبد الفتاح السيسي يُدرك تماماً أن مكانته الإقليمية والدولية اليوم تعتمد على احتفاظه بعلاقة قوية مع هذه الجماعة الغزّاوية الإسلامية.

حرب غزة الأخيرة حولت العلاقات أكثر بين غزة والقاهرة

ماجد مندور*

في 18 أيار (مايو) 2021 تعهّد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتخصيص 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة، وبعدها بيومين نجحت الوساطة المصرية في إقناع اسرائيل و”حماس” بقبول وقف إطلاق نار مُتبادَل وغير مشروط دخل حيّز التنفيذ في 21 أيار (مايو) 2021. عندما أعلن الرئيس المصري تعهّده بتقديم الدعم المالي لغزّة كانت الهجمات الإسرائيلية على القطاع قد تسببت في هدم وتحطيم ما يزيد عن 450 مبنى.  وبعد أسبوعين فقط، في 4 حزيران (يونيو) شوهدت معدات البناء المصرية في طريقها إلى غزة لتبدأ عملها. وبينما تبدو المبادرة المصرية لإعادة إعمار غزة بالنسبة إلى المراقب العادي مُتناقضة تناقضاً فاضحاً مع ما درج عليه النظام من حصارٍ للقطاع وشَيطَنةٍ لحركة “حماس”، إلّا أن المُتأمّل سيكتشف أن السياسة المصرية في ما يتعلق ب”حماس” لا تخلو من التعقيد، بل ومن التضارب أحياناً.

فعلى الصعيد الداخلي، وحتى بدايات 2017، لم يكن النظام يتردّد في تشويه صورة الحركة أو المشاركة الفعّالة في حصارها، ولكن سياساته هذه شهدت تحوّلاً عندما اضطر للتعاون معها لمجابهة تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء. وفي الوقت نفسه استمر النظام في ممارسة دوره الوساطي بينها وبين أعدائها –إسرائيل و”فتح”- حرصاً على علاقاته مع الولايات المتحدة الأميركية وعلى تعزيز دوره الإقليمي المؤثر في المنطقة. والنتيجة أن القرارات السياسية الصادرة عن النظام المصري غالباً ما تبدو مُتناقضة ومُربكة بسبب تشابكها العميق مع أهدافه المحلية والخارجية المُتعدّدة.

على سبيل المثال لعبت الحملة المنظّمة التي قادها نظام السيسي لتشويه صورة “حماس” أمام الجمهور المصري دوراً كبيراً في تمرير سياساته القمعية ضد جماعة “الإخوان المسلمين” التي اتّهمها بالـتواطؤ مع “حماس” لتدمير الدولة المصرية. ولكن هذه الحملة التي بدأت قوية شابها الوهن مع مرور الوقت وأفسحت الطريق لسياساتٍ أكثر مرونة. وكان السيسي وجد في التواطؤ المزعوم بين “حماس” والإخوان مُبرِّراً جيداً للاستمرار في قمع الجماعة وحصار قطاع غزة في آنٍ معاً، وليتحوّل الخطاب المُناهض ل”حماس” إلى ترس من تروس عجلة السياسة الداخلية المصرية. وعندما صدر حكم الإعدام على الرئيس الراحل محمد مرسي في 2015 بتهمة التخابر مع جهات أجنبية، تحديداً “حماس” و”حزب الله”، أكدت حيثيات الحكم على صلة “حماس” بجماعة “الإخوان المسلمين” وعلى مخططاتهما المُشتَرَكة للإطاحة بالدولة المصرية.

وبحلول 2016 بدا أن عدوى هذا الخطاب المُلتَهب قد استشرت في كل قطاعات النظام المصري. حيث اتّهمَ وزير الداخلية آنذاك مجدي عبد الغفار “حماس” وجماعة الإخوان باغتيال المُدّعي العام المصري هشام بركات في بداية العام، ولم يكد يمر شهرٌ واحد حتى أطلق المذيع أحمد موسى، وهو مقدم برنامج حواري معروف بصلته الوثيقة بالأجهزة الأمنية، دعوة إلى شن هجوم عسكري عربي مشترك ضد “حماس”. واقترنت هذه الحملة الإعلامية المحلية بجهودٍ مصرية دؤوبة لتدمير الأنفاق التي تعتبرها “حماس” سلاسل الإمداد التي تتلقى من خلالها الوقود ومواد البناء والإمدادات الطبية التي يحتاجها القطاع المُحاصَر. وفي آذار (مارس) 2014 أعلنت القوات المسلحة المصرية تدمير 1370 نفقاً في أسفل مدينة رفح الحدودية التي تربط سيناء بغزة. وفي أيلول (سبتمبر) 2015 حاول الجيش المصري استخدام مياه البحر لإغراق الأنفاق. ولكن نظام السيسي لم يكتفِ بالجعجعة الكلامية أو حتى بالحصار والمُقاطعة، بل استخدم إجراءات قاسية ترقى إلى منزلة جرائم حرب لإنشاء منطقة عازلة بينه وبين “حماس” في غزة، مُدمِّراً 3255  مبنى و685 هكتاراً من الأراضي الزراعية في رفح.

ولكن الفترة ما بين 2016 و2017 شهدت تراجعاً ملحوظاً في حملة تشويه صورة “حماس” وشيطَنتها بعد أن أصبح التعاون معها لمواجهة إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء مسألة حياة أو موت. وبذلت “حماس” بدورها جهوداً كبيرة للتصالح مع النظام المصري من خلال عمليات التنسيق الأمني وتغيير السياسات العامة. وفي آذار (مارس) 2016 بدأت بوادر التقارب تطفو على السطح عندما وصل وفد من “حماس” رفيع المستوى إلى القاهرة لإجراء مباحثات أمنية. وسبق هذه الزيارة تهيئة إعلامية تمثلت في مقالٍ ظهر على صفحات جريدة الأهرام، وهي أكبر صحيفة يومية في مصر، يصف “حماس” بأنها “حركة مقاومة” بدلاً من تسميتها المعتادة بالمنظمة الإرهابية. وتلى هذه المحادثات زيارة إسماعيل هنية للقاهرة في كانون الثاني (يناير) 2017 والتي أعقبتها زيارة أخرى في أيلول (سبتمبر) بعد انتخابه لقيادة الحركة. وفي هذه الزيارة الثانية تحدّث هنية عمّا أسماه بفصلٍ جديد في العلاقات الثنائية، وتعهّد باحترام الأمن القومي المصري ورفع درجة التعاون الأمني مع النظام المصري. وفي محاولةٍ أخرى لإحياء العلاقة مع الجانب المصري أصدرت حماس في أيار (مايو) 2017 وثيقة رسمية أعلنت فيها فك الإرتباط بجماعة “الإخوان المسلمين” في مصر. وفي تشرين الأول (اكتوبر) 2017 ظهر أحمد موسى من خلال برنامجه -الذي أشرنا إليه سابقاً- ليُسَوِّق للجماهير المصرية مُبررات هذا التقارب المُفاجئ مُشيداً بتعاون “حماس” مع الدولة المصرية في مجابهة “العناصر الإجرامية”، وبدورها في تدمير أنفاق التهريب الكبرى. والحقيقة أن تزايد نشاط تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء قد أجبر الحكومة المصرية على ابتلاع نقمتها على “حماس” والتعاون معها لمكافحة العدو المشترك.

وعلى الرغم من استمرار النظام في وصف “حماس” بالتواطؤ في العمليات الإرهابية التي يقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية، لأغراضٍ دعائية، فقد بدأ يتعاون مع الحركة كحليف ضد الإرهابيين في سيناء، خصوصاً بعد تصاعد وتيرة الاحتكاكات بين “حماس” والمُتعاطفين مع تنظيم الدولة في غزة. وفي 30 نيسان (أبريل) 2016، وبالتعاون مع الجيش المصري، تمركز المئات من مقاتلي “حماس” على الحدود لمنع أي تسرّب مُحتَمل لمُقاتلي التنظيم من سيناء إلى غزة. واستكمالاً لعمليات التنسيق الأمني مع النظام المصري اعتقلت “حماس” في النصف الأول من 2017 ما يقرب من 200 عنصر من عناصر السلفية الجهادية داخل غزة يُشتبه في اتصالهم بتنظيم الدولة.

وفي إطار دفع هذا العدو المشترك تعاونت حماس تعاوناً وثيقاً مع قوات الأمن المصرية خلال العملية الشاملة لمجابهة الإرهاب في سيناء والتي انطلقت في شباط (فبراير) 2018. وبلغ التعاون الأمني مداه مع بدء عمليات إنشاء الجدار العازل في شباط (فبراير) 2020 على جانبي الشريط الحدودي الفاصل بين سيناء وغزة تحت إشراف مصري. والحقيقة أن مجابهة عدو مشترك قد أبرز قدرة “حماس” على القيام بدورٍ عملي بوصفها شريكاً حيوياً وأساسياً في حملة النظام المصري لمكافحة الإرهاب في سيناء.

وعلى الرغم من أن الأمور لم تكن دائماً على ما يرام بين “حماس” ومصر، إلّا أن النظام المصري استمر في لعب دور الوسيط بين “حماس” وخصومها، وبخاصة إسرائيل – وهو دور تستدعيه علاقته مع الولايات المتحدة الأميركية ورغبته في الحفاظ على النفوذ الإقليمي المصري. وعلى سبيل المثال في تموز (يوليو) 2014، توسط النظام لوقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل، بعد أن أدّى القتال إلى مصرع 2251 فلسطينياً و 74 إسرائيلياً. ولكن سبق هذا الاتفاق مقترحٌ للتهدئة بين “حماس” وإسرائيل تقدّمت به مصر من دون استشارة “حماس” وهو ما رفضته الحركة، واستغلته إسرائيل لتزيد توغّلها البرّي في القطاع. والحقيقة أن مثل هذه المقترحات التي يقدمها النظام المصري من خلال دوره كوسيط، بدون الرجوع إلى “حماس”، هي أفضل مثال على الطريقة التي يمنح بها النظام العمل العسكري الإسرائيلي ضد الجماعة الغطاء الديبلوماسي المطلوب. ولا شك أن علاقة النظام الطويلة مع إسرائيل قد وضعته في موضع مثالي لممارسة دور الوسيط، متقدما على دول عربية أخرى مثل المغرب والإمارات والبحرين التي قامت جميعها بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في العام 2020.

وعلاوة على ذلك، فالحدود المشتركة بين مصر وغزة تلعب دوراً مُحوَرياً في تأثير مصر على “حماس” وهو تأثيرٌ يتضح جلياً عندما تُقرّر القاهرة إغلاق معبر رفح كلما عنّ لها تغيير ما لا يروق لها من سياسات الحركة. وعلى سبيل المثال، في شباط (فبراير) 2021، فتح النظام المصري معبر رفح “إلى أجل غير مسمى” بعد أن تعهّدت “حماس” بقبول نتيجة الانتخابات الفلسطينية التي طال تأجيلها في محاولة “لخلق ظروف أفضل للمفاوضات”، بين الفصائل الفلسطينية. وقد أصبح دور الوسيط المصري أكثر أهمية في ظل ما أبدته إدارة جو بايدن من عداءٍ مُبكر نحو السيسي ونظامه. ولكن بالرغم من أن بايدن قد استهدف السيسي بشكل شخصي خلال حملته الانتخابية مُشيراً إلى أنه “لن يكون هناك المزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل”، إلّا إنه حرص على الحفاظ على العلاقة الأمنية الوطيدة والطويلة بين مصر والولايات المتحدة بموافقته على صفقة أسلحة قيمتها 197 مليون دولار في شباط (فبراير) 2021.

وعلى الرغم من أن بايدن لم يتحدّث إلى السيسي منذ توليه منصبه، حتى حرب غزة، إلا إنه في 20 أيار (مايو) أشاد علناً بجهود السيسي للتوسّط لوقف إطلاق النار بين “حماس” وإسرائيل، مُشدّداً على القيمة التي توليها الإدارة الأميركية للوضع السياسي الراهن، ولدور مصر التقليدي كوسيطٍ بين “حماس” وإسرائيل.

وبعد فترة وجيزة، زار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن القاهرة، في محاولة لتعزيز جهود وقف إطلاق النار – وأشاد أثناء زيارته بالنظام باعتباره “شريكاً حقيقياً وفعّالاً”. وسرعان ما تلى ذلك موجة من النشاط الديبلوماسي المصري، تهدف إلى تعزيز وقف إطلاق النار ودفع عملية المصالحة بين “فتح” و”حماس”. وشمل ذلك زيارة رئيس المخابرات العامة المصرية عباس كامل إلى القطاع في 31 أيار (مايو)، وهي الأولى من نوعها لرئيس مخابرات مصري منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، والتي شجّعتها زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي إلى القاهرة في 30 أيار (مايو)، وعززتها زيارة لاحقة قام بها مسؤولون من “حماس” إلى القاهرة في 8 حزيران (يونيو).

وإجمالاً، فإن السياسة المصرية تجاه “حماس” تدفعها أهداف مُتعَدّدة ومُتضاربة أحياناً ولا يمكن فهمها تماماً إلّا من خلال منظار تتقاطع فيه عدسات السياسات الداخلية والخارجية. وظاهر الأمر هو أن علاقة “حماس” بنظام السيسي هي علاقة تبادل منافع تدفعها المصلحة المشتركة ويحرص فيها كلا الطرفين على الحفاظ على قدر، ولو ضئيل، من حسن الجوار. فالنظام المصري يحتاج إلى دعم “حماس”، ليس في سيناء وحسب، ولكن ليتمكن من الحفاظ على نفوذه الإقليمي الذي يؤمّنه له دوره الوساطي، وليتمكّن أيضاً من تقليص تأثير ونفوذ منافسيه الإقليميين، مثل تركيا وقطر، في غزة. وفي الوقت نفسه تحتاج “حماس” إلى حدٍّ أدنى من الوفاق مع مصر يسمح بتدفق الإمدادات الضرورية عبر الحدود سواء بشكلٍ قانوني من خلال المعابر أو بشكلٍ غير قانوني من خلال الأنفاق، وتحتاج أيضاً إلى أن تستمر مصر في أداء دور الوسيط نيابة عنها. وهكذا يظل الطرفان حبيسَي عناقٍ خانق أملته عليهما أوضاع وظروف لا يملكان منها فكاكاً.

  • ماجد مندور مُحلّل سياسي وكاتب عمود “سجلات الثورة العربية” لدى موقع “أوبن ديموكراسي”. يمكن متابعته عبر تويترعلى: @MagedMandour.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى