ماذا يجري في تونس؟
وصف قيس سعيّد فوزه في الانتخابات التونسية في العام 2019 بأنه مثّل “ثورة جديدة”، لكنه بدا مُكبَّلًا بالدستور، الذي لم يخفِ رغبته في تعديله لتوسيع صلاحياته. فهل أستغلّ سعيِّد الأوضاع للانقلاب على الدستور كما يتّهمه معارضوه؟ أم أنقذ تونس؟
محمد شعبان*
في 25 تموز (يوليو)، جمّد الرئيس التونسي قيس سعيّد عمل البرلمان، وأقال رئيس الوزراء، وأعلن أنه سيحكم مؤقتاً بمرسوم، وألغى أيضاً الحصانة البرلمانية، وهدَّد بإخضاع النواب الفاسدين للقانون “على الرغم من ثرواتهم ومناصبهم”. في 26 تموز (يوليو)، أصدر أيضاً قراراً بحظر التجوّل في جميع أنحاء البلاد لمدة 30 يوماً.
يُمثّل انتزاع سعيّد للسلطة اختباراً رئيساً للديموقراطية الفتية في تونس، لا تقل خطورة عن احتجاجات العام 2013 التي كادت أن تعرقل المرحلة الانتقالية الأوّلية. كيف سيكون ردّ فعل الجماهير التونسية والدولية على إعلان سعيّد سُيشكّل على الأرجح ما إذا كانت البلاد ستظلّ الديموقراطية العربية الوحيدة في العالم، أو تقع في نطاق ما يُسمّيه علماء السياسة “انقلاباً ذاتياً” أو استيلاء على السلطة.
جذورُ الأزمة
على الرغم من الإنتقال إلى الديموقراطية والموافقة على دستورٍ تقدّمي من خلال التوافق، تعرّضت تونس منذ ثورة 2011 لضربةٍ شديدة بسبب الاقتصاد الراكد، وتصوّرات الفساد، وتزايد خيبة الأمل من الأحزاب السياسية. غذّى هذه الاتجاهات صعود سعيّد، أستاذ القانون المستقل الذي حقق فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية في العام 2019. على الرغم من شعبيته، فقد وضع دستور تونس لعام 2014 نظاماً شبه رئاسي يتقاسم فيه سعيِّد السلطة مع رئيس الوزراء الذي يستمد سلطته من ثقة البرلمان. لقد أدى هذا النظام المُنقسِم إلى توقّف النشاط السياسي في تونس تقريباً، حيث خاض الرئيس سعيّد ورئيس الوزراء هشام المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي خلال العام الفائت خلافات متكررة بشأن سلطات كلٍّ منهم. أنتجت هذه الانقسامات نهجاً غير مُتماسكٍ تجاه جائحة كوفيد-19، والذي لم يؤدِّ إلّا إلى تفاقم الضيق الاقتصادي والسياسي في تونس.
في هذا المناخ، يُمثّل انتزاع سعيد للسلطة بالنسبة إلى البعض استراحة نظيفة من مرحلة انتقالية مُتعثّرة، مما يعطي الأمل في أن رئاسةً أقوى غير مُرهَقة، بما أطلق عليه سعيِّد أخيراً، “الأقفال” في دستور 2014 قد تسمح له بإعادة الاقتصاد إلى المسار الصحيح والقضاء على الفساد لدى الطبقة السياسية. لكن بدلاً من التفاوض على تعديلٍ دستوري، استولى سعيّد على السلطة بشكل كامل، وقام بتجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء بمرسوم. وفقاً لذلك، إنتقد رئيس البرلمان الغنوشي، تحرّكات رئيس الجمهورية ووصفها بأنها “انقلابٌ على الثورة والدستور”. كما أدانت الأحزاب الأربعة الكبرى في البرلمان – بما فيها حزب النهضة الإسلامي وائتلاف الكرامة والأحزاب العلمانية قلب تونس والتيار الديمقراطي – من بين آخرين تصرفات سعيِّد باعتبارها غير دستورية.
إنقلابٌ “دستوري”؟
يزعم الرئيس سعيِّد، أستاذ القانون الدستوري سابقاً، أنه تصرّف وفقاً للمادة 80 من الدستور التونسي، التي تسمح للرئيس المطالبة بسلطاتٍ استثنائية لمدة 30 يوماً “في حالة وجود خطر وشيك” على الدولة أو عملها. ومع ذلك، فإن قراءة أي شخص عادي للمادة 80 يمكن أن تُريه أنها تتطلب أيضاً استشارة رئيس الوزراء ورئيس البرلمان، وأن يظل مجلس النواب “في حالة من الانعقاد المستمر طوال هذه الفترة”، وليس مُجمَّداً.
لسوء الحظ، فإن الهيئة الوحيدة التي يُمكنها الفصل في ما إذا تم تطبيق المادة 80 بشكل مناسب – وفي هذا الصدد، الهيئة الوحيدة التي يمكنها وفقاً للمادة 80 إنهاء صلاحيات سعيد الاستثنائية – هي المحكمة الدستورية، التي لا تزال غير موجودة. على الرغم من أن إنشاءها كان مُفوَّضاً بموجب دستور 2014، إلّا أن المشهد السياسي المُتصدّع في تونس منع الأحزاب من التوصّل إلى اتفاقٍ بشأن عضوية المحكمة.
من سيّئ إلى أسوأ
بدون حلٍّ قضائي وقانوني، تصاعدت الأزمة بدلاً من ذلك في اتجاهٍ أكثر إثارة للجدل في الـ36 ساعة الماضية. في وقت متأخّر من ليلة الأحد، حاول الغنوشي ونائبة رئيس البرلمان سميرة الشواشي وقادة برلمانيون آخرون تحدّي مرسوم سعيّد وعقد جلسة برلمانية، تماشياً مع الدستور. لكن وحدة عسكرية مُتَمَركزة خارج البرلمان منعتهم من الدخول. فمن ناحية، يمكن القول إن الجيش التونسي، وهو قوة محترفة ومهنية وغير سياسية تاريخياً، كان ببساطة يتبع أوامر رئيس الجمهورية (على الرغم من أسسها الدستورية المُهتَزّة). ومع ذلك، فإن أفعاله، سواء عن قصد أو عن غير قصد، كانت لها أيضاً عواقب سياسية كبيرة، وخلق تصوّرات بأن الجيش قد يكون موالياً لسعيّد وعزّز الانطباعات بأن هذا كان بالفعل “انقلابًا ذاتياً”. كما أن إقالة رئيس الجمهورية لوزير الدفاع قد أدّت إلى مزيد من الشائعات بأنه كان يحاول تأمين ولاء الجيش له لما قد يأتي في الأيام والأسابيع المقبلة.
من جانبها، أظهرت الشرطة، على ما يبدو، ولاءها لسعيّد خلال الـ36 ساعة الماضية، وأبرزها اقتحام مكتب قناة الجزيرة في انتهاكٍ واضح لحرية الصحافة. كما أفادت وسائل إعلام تونسية أن سعيّد كلّف رئيس حرسه الرئاسي خالد اليحياوي بمسؤوليات وزير الداخلية. ونظراً إلى أن الشرطة خضعت لإصلاحاتٍ قليلة في قطاع الأمن منذ الثورة ، واستمر رجالها في ارتكاب انتهاكات واسعة النطاق، فقد تلعب أيضاً دوراً حاسماً في تعزيز محاولة الانقلاب التي قام بها سعيّد.
ومما يثير القلق أيضاً ردّ فعل الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي فاز بجائزة نوبل للسلام لدوره في التوسّط في المفاوضات التي حلّت أزمة تونس في العام 2013. ومع ذلك، فبدلاً من بيانٍ مُحايد يحثّ على الحوار، بدا الاتحاد مؤيداً لأفعال سعيد، قائلاً إنها تتماشى مع الدستور، لكنه أعرب عن أمله بالتزام رئيس الجمهورية بـ30 يوماً التي أعلن عنها وعدم توسيع سلطاته أكثر.
الطريق إلى الأمام
على الرغم من أن غالبية الأحزاب السياسية عارضت تصرّفات سعيِّد، فإن عدم وجود معارضة (أو حتى دعم ظاهري) من الجيش والشرطة والاتحاد العام التونسي للشغل يشير إلى أن سعيِّد لن يتراجع في أي وقت قريب. من الآن فصاعداً، من المُرجَّح أن تتصاعد الأزمة، حيث يحثّ كلا الجانبين أنصارهما على النزول إلى الشوارع.
إن نتيجة الأزمة ستتشكّل جزئياً من خلال مَن يمكنه حشد المزيد من المؤيدين “للتصويت بأقدامهم”. في هذه المرحلة، يبدو أن ميزان القوى في صالح الرئيس سعيِّد. على الرغم من أنه لم يعد يتمتع بنسبة التأييد البالغة 87٪ التي حصل عليها في العام 2019 (استطلاعات الرأي اليوم تقترب من 40٪)، إلّا أنه لا يزال الشخصية الأكثر شعبية في تونس. خارج قاعدته، قد يوافق التونسيون الذين يسعون إلى رئاسة أقوى، وكذلك أولئك المُعادون للأحزاب السياسية، وحركة “النهضة” الإسلامية على وجه الخصوص، على قراراته. ومع ذلك، فقد عارضت معظم الأحزاب السياسية الانقلاب، ومن المرجح أن تحشد بأعداد كبيرة أيضاً.
لكن الاحتجاجات المُتناحرة التي ظهرت اليوم تجعل الوضع أكثر تقلباً، مما يزيد من شبح الاشتباكات بين الجانبين. يتطلّب منع هذا العنف المُحتَمَل من سعيّد والأحزاب السياسية تخفيف حدّة التصعيد والتفاوض على طريقةٍ للخروج من الأزمة. من الأهمية بمكان أن نراقب في هذا الصدد موقف الاتحاد العام التونسي للشغل والجهات الفاعلة الأخرى في المجتمع المدني: هل يتدخّلان مرة أخرى للمساعدة على التوسط للوصول إلى مخرج من هذه الأزمة، ومتى؟.
عاملٌ مهم آخر يجب مراقبته هو ردّ فعل المجتمع الدولي. باستثناء تركيا، التي عارضت بشدة “تعليق سعيِّد للعملية الديموقراطية”، تبنّت غالبية الدول والهيئات التي اهتمّت بما يجري في تونس في (ألمانيا، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة) عموماً سياسة “الانتظار والترقب”، مُعَبِّرةً عن القلق وحثّت على ضبط النفس والحوار. ومع ذلك، إذا لم تقف الديموقراطيات في العالم ضد محاولة الانقلاب بقوة، فإنها تُترك فرصة للقوى المعادية للثورة التونسية، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، للتأثير في الأزمة لدعم سعيّد، مثلما فعلتا مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. في ظلّ حالة الركود التي يمر بها الاقتصاد التونسي، فإن الدعم الخارجي – والمساعدات – قد يشكّلان نتائج هذه الأزمة، من أجل الخير أو الشرّ.
- محمد شعبان هو مراسل “أسواق العرب” في تونس.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.