حَراكٌ عاجِزٌ؟ خيباتُ أملِ الديموقراطية في الجزائر

وسط تصاعدِ قمعِ الدولة على أعتاب الانتخابات التشريعية الجزائرية، يُكافح “الحراك” من أجل التحوّل من حركةِ احتجاجٍ شعبية إلى مُعارضةٍ سياسية ذات صلة.

مظاهرات “الحراك” في الجزائر: تواجه قمعاً من النظام

إلهام رشيدي *

مع اقتراب الذكرى الثانية لانطلاق حركة “الحَراك” في شباط (فبراير) 2021، استؤنفت المظاهرات في جميع أنحاء الجزائر. بعد عامٍ من الهدوء الناجم عن الوباء، عاد الناس فجأة إلى الشوارع – لإحياء المطالب برحيل وإقالة حكّام البلاد وبالتحوّل الديموقراطي الحقيقي. وبينما ردّد المتظاهرون شعاراتٍ مألوفة، بدا أن الدعم الشعبي للحركة لم ينخفض وما زال سليماً وثابتاً.

على مدى الأشهر الأربعة الفائتة، استمر “الحَراك” في جذبِ عددٍ كبيرٍ من المتظاهرين، وإن كان أقل مما كان عليه في الأيام الأولى للحركة. لكن النظامَ الجزائري لم يُقدّم بعد أي تنازلاتٍ سياسية حقيقية؛ لقد حافظ على الوضع السياسي الراهن مع تجاهل الضغوط المُتزايدة من أجل الإصلاحات والتحوّلات العميقة التي تحدث في المجتمع الجزائري. منذ بداية “الحَراك”، إكتشف الجزائريون السياسة من جديد، وأصبحوا أكثر انتقاداً لصانعي القرار الحقيقيين في النظام: قادة الجيش. على الرغم من أن “الحَراك” أطاح عبد العزيز بوتفليقة، أطول رئيس مُعمّرٍ في المنصب في الجزائر، إلّا أنه لم يُحقّق تغييرات سياسية كبيرة. تم اختيار خلَفٍ لبوتفليقة، عبد المجيد تبون، من قبل الجيش، مثل جميع الرؤساء الجزائريين منذ الاستقلال. علاوةً على ذلك، فإن الدستور الجزائري الجديد، الذي تمَّ تبنّيه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 استجابةً ل”الحَراك”، ما زال يمنح معظم السلطات للرئيس وحده.

إنطلاقاً من روح المَطالِب بديناميكية سياسية جديدة، إجتمع نُشطاءٌ جزائريون في 8 أيار (مايو) في مدينة خراطة، موقع مسيرة الحراك الأولى في العام 2019. وهناك، في خراطة، سعى المشاركون في “الحَراك” إلى إنشاء مجتمعٍ داخل الحركة وبدء مناقشات لتفصيل وشرح ودرس مطالبهم السياسية. يُمثل هذا الاجتماع الأول من نوعه التقدّم التنظيمي المتواضع ل”الحَراك”.

وبدلاً من الخروج بمطالب مُوَحَّدة أو جاهزة للعمل، وافق النشطاءُ المُجتَمعون في خراطة ببساطة على عقد مؤتمر وطني قبل الانتخابات التشريعية في حزيران (يونيو). ومن غير المرجح أن يُعقَد الاجتماع، نظراً إلى أن العديد من الذين كانوا سيحضرون تم سجنهم أو استدعاؤهم أو وضعهم تحت إشراف قضائي. وفي الوقت نفسه، طالبت السلطات الجزائرية المتظاهرين بالحصول على تصاريح للمظاهرات واتّخذت خطواتٍ لحظرِ المنظمات التي تدعم “الحراك”، على سبيل المثال “تجمّع العمل الشبابي”.

على الرغم من أن الحركة تُعاني من هذه الضغوط، فإنها ما زالت تتمتّع بتأثيرٍ كبير في المجتمع الجزائري، رُغم أنها لم تستطع بعد إنتاج تغييرات ديموقراطية جوهرية للجزائريين. اليوم، يتفق معظم النشطاء على أن هدفهم في إقامة دولة ديموقراطية، مع فصل السلطات ونظام عدالة مستقل، بعيد المنال أكثر مما كان متوقَّعاً في البداية. في الأيام الأولى ل”الحراك”، كان المتظاهرون يثقون في أن مظاهراتهم الأسبوعية ستؤدي إلى تغيير جذري وتجدّد وتغيير سياسي.

لكن بمجرد مغادرة عبد العزيز بوتفليقة للرئاسة في نيسان (أبريل) 2019، بدا أن الجيش وكذلك المجتمع الدولي قررا أن هذا الأمر كان كافياً. مُثنياً على الطبيعة السلمية ل”الحراك” ومُرحّباً برحيل بوتفليقة، لم يضغط المجتمع الدولي لإجراء المزيد من التغييرات. وعشرُ سنين بعد “الربيع العربي”، مع استمرار الأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء المنطقة، لم تُمارس أيّ جهات خارجية ضغوطاً من أجل إجراء إصلاحات ديموقراطية على النظام الجزائري. غالباً ما تُذكَر الحاجة إلى جزائر مستقرة، وهي دولة غنية بالنفط وشريك رئيس للولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب، ضد المخاوف من عدم الاستقرار في شمال إفريقيا في العواصم العالمية.

هذا النقص في الإرادة السياسية الدولية لتشجيع الديموقراطية في الجزائر يُعيق “الحراك”، لكن في النهاية قد يؤدي هذا في الواقع إلى زعزعة استقرار الجزائر. منذ شباط (فبراير) 2019 إلى وقف نشاطه بسبب الوباء، وحّدت الاحتجاجات السلمية -بشكلٍ غير مُتَوَقَّع- الجزائريين من خلفيات ديموغرافية وإيديولوجية مُتنوّعة. مع تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية بسبب الوباء وتقلّص عائدات النفط، أصبح العنف احتمالاً مُتزايداً إذا استمر القادة الجزائريون في تجاهل مطالب التنمية الاقتصادية في المناطق الأكثر تهميشاً. إن احتجاجات كانون الثاني (يناير) 2021 ضد الإغلاق في مدينة الأغواط وأعمال الشغب في شباط (فبراير) في مدينة ورقلة بعد الحكم القاسي على الناشط عامر غراش تُنذر بتهديدات عنف اجتماعي واسع النطاق لا يُمكن السيطرة عليه.

في غضون ذلك، يواصل القادة السياسيون الجزائريون تجاهل تأثيرات “الحَراك” الشعبي. في شباط (فبراير) 2021، عندما أعلن الرئيس تبون عن انتخاباتٍ تشريعية، استهزأ على ما يبدو بـ”الحراك المُبارَك” عندما أشاد بالحركة في إعلانه. كما في الإنتخابات السابقة، لن تُغيِّر هذه الانتخابات المُعادَلة السياسية. بل إنها توفر فرصة أخرى للنظام لتأخير التغيير الحتمي من خلال تجديد دعمه الحزبي، وتقسيم المعارضة بالنسبة إلى المشاركة في الانتخابات، وإجبار “الحراك” على اقتراح بديل سياسي.

حتى الآن، فشل “الحراك” في تقديمش نهجٍ سياسي قابل للتطبيق. ومن المفارقات أن هذا الأمر يرجع جزئياً إلى الدوافع التي دفعت الجزائريين في البداية إلى النزول إلى الشوارع. لا تستطيع أي نخبة سياسية ترجمة المطالب الشعبية بالتغيير والدَمَقرطة في البلاد. ومثل حركات الاحتجاج الأخرى في المنطقة، يواجه “الحراك” مهمة مستحيلة: من المتوقع أن يُعوّض عن قمع طويل الأمد لجميع البدائل السياسية. إحتُوِيَت الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات المحلية وهَيمن عليها النظام منذ عقود. كما تم إضعاف الأحزاب الداعمة ل”الحراك” – جبهة القوى الاشتراكية، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وأطراف أخرى – خلال فترة حكم بوتفليقة الذي لم يسمح له إلّا بقدر ضئيل من الدعم الشعبي. علاوة على ذلك، تواجه المجموعات الداعمة ل”الحراك” صعوبات كبيرة في التنظيم، حيث منعت السلطات معظم محاولاتها لعقد اجتماعات، خصوصاً أثناء الوباء.

على الرغم من ظهور أُطُرٍ للمناقشات عبر الإنترنت مثل “نداء 22″، لم يُصدِر “الحَراك” منصّة للمطالب. تكمن الصعوبة الرئيسة في التنوّع الإيديولوجي للحركة، ما يؤدي إلى تأجيل المناقشات حول القضايا الخلافية. يعتقد بعض النشطاء أن حقوق المرأة ثانوية. ويدّعي آخرون أنه ليس الوقت المناسب للقتال من أجل دولة علمانية. في البداية، اعتُبِرَت هذه الاختلافات ميزة حيث توحّد المحتجون حول الهدف الوحيد المُتمثّل في الإطاحة بالنظام. لكن التوترات بين النشطاء العلمانيين والإسلاميين في حركة “رشاد”، والتي تم وضعها جانباً في الأيام الأولى، أصبحت أكثر وضوحاً. وقد استغلّ النظام وأنصاره هذه المعارضة الإيديولوجية وأعلنوا في أيار (مايو) أن “رشاد” منظمة إرهابية.

بينما يكافح “الحراك” من أجل أن يصبح ذا صلة بالسياسة وللتحوّل من حركة في الشارع إلى قوةٍ معارضة محتملة، صعّدت الحكومة من القمع. تم اعتقال أكثر من 6,200 شخص وحُوكِمَ 1,800 شخص منذ استئناف مسيرات “الحراك” هذا العام. وبينما تكون الاعتقالات قصيرة في كثير من الأحيان، يتعرض الجزائريون بشكل روتيني لعنف الشرطة. في مناسبات عدة في الآونة الأخيرة، تم تفريق المتظاهرين ومنعهم من التجمع في مسيرات. وفي أيار (مايو)، زاد توقيف متظاهري “الحراك” بشكلٍ كبير إلى ما لا يقل عن 226 حالة. وبالمقارنة، عندما استتأنف “الحراك” نشاطه في شباط (فبراير)، كان هناك 30 شخصاً فقط رهن الاعتقال لدوافع سياسية، بعد الإفراج عن 39 بعد قرارٍ رئاسي. بل إن بعض السجناء السابقين يُعادون إلى السجن. في مدينة الشلف  حُكِمَ على علي مُقران، الذي عفا عنه الرئيس تبون في شباط (فبراير) 2021، بالسجن ستة أشهر في نيسان (إبريل) بتهمة تشويه صورة الرئيس، من بين تُهَمٍ أخرى.

في الشهرين السابقين على الاقتراع الرئاسي في كانون الأول (ديسمبر) 2019، تم اعتقال أكثر من 2,000 شخص. مع اقتراب الانتخابات التشريعية، يستمر اختبار القوة بين النظام و”الحَراك”، حيث يخشى العديد من النشطاء من أنهم قد يواجهون بداية قمع أقوى ودائم. لكن على الرغم من تصعيد الدولة للقمع وحظر الاحتجاجات، يبدو من غير المرجح أن يبقى المتظاهرون في منازلهم.

  • إلهام رشيدي هي صحافية مستقلة، تُركّز على الحركات الاحتجاجية وقضايا حقوق الإنسان في المغرب والجزائر. يمكن متابعتها عبر تويتر على: @Ilhemrachidi.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى