من انتفاضةِ الحجارة إلى انتفاضةِ الفحولة

البروفسور بيار الخوري*

“أراكَ يهودياً أكثر منّا مستر عرفات!”، قالها رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل إسحق رابين لشريكه في اتفاقات “أوسلو” الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تحت ضحكات الحاضرين الذين كان بينهم الرئيس بيل كلِينتون والملك حسين. وحده أبو عمّار بدا كالولد المُتَّهَم يفتح يديه مُشيراً الى استغرابه وأن لا علاقة له بما يُقال. لكن حرارة الضحكات والتصفيق طغت على استغراب عرفات المُرتبِك. لقد فهم الزعيم الفلسطيني أن هناك مَن يهينه في معرضِ المديح، وفَهِمَ أيضاً أن المطلوب منه مُرتفعُ السقف لدرجةِ الاستحالة.

تلك الاستحالة هي التي دفعت عرفات لاحقاً إلى تفجير غضبه قائلاً بعد إحدى جلسات مفاوضات الوضع النهائي: أتريدونني عاريا”؟ لم يبقَ إلّا أن أتعرّى!

أدرك عرفات أنه من غير الممكن أن يُمارس دوره في سلطة الحكم الذاتي مع الكوفية، وعرفات بلا كوفية ولو حمل كل أغصان زيتون فلسطين ليس أبو عمّار. إنتهى الأمر بالرجل – الذي رفض ان يتعرّى – ملكاً على غرفةٍ في مقرّه في رام الله حيث مات مسموماً لأنه…غير قادرٍ على التعرّي أكثر.

الإنتفاضة الاولى في العام ١٩٨٧ جاءت بمنظمة التحرير الفلسطينية الى أرض الرباط وصلّى عرفات في المسجد الاقصى وكنيسة القيامة: ذلك أقصى المسموح لقيامة الحلم الفلسطيني.

رحل رابين ورحل بعده عرفات وتقدّمت طهران لحمل العَلَم.

أثبتت إسرائيل أنّها لا تُريد إلّا سلاماً يُنهي الحقّ الفلسطيني، وقتلت أعظم رجالاتها في سبيل ذلك. واجه الفلسطينيون أبشع الإهانات وتبارى الحاخامات في نزع صفة البشر عنهم.

حصل ذلك في وقتٍ ذهب العرب إلى مكانٍ آخر: كلُّ دولةٍ لنفسِها، ولكلِّ دولةٍ ظُروفُها التي تمّت تحت ستارها كلّ المصالحات السرّية منها والعلَنية. تقدّمت إسرائيل كثيراً في ظل ادارة دونالد ترامب. نُقِلَت السفارة الأميركية إلى القدس، واعترفت الولايات المتحدة بضمّ الجولان، كما وقّعت تل أبيب تطبيعات مع ثلاث دول في ظلِّ انهيارٍ عربي طرازي وغير مسبوق. تقدّمت إسرائيل في سياسة تعرية الفلسطينيين: فلسطين هي سجن غزة الكبير والباقي مشاريع مستوطنات.

خَلَقَت إسرائيل وضعاً لفلسطيني بلا هوية ولا وطن ولا كرامة وعرّته لتلك الدرجة التي وقفت معها نساء فلسطين تودّعن بناتهن بالقول أنتِ بألف رجل وألف عربي.

لم تترك اسرائيل للفلسطيني سوى فحولته يُدافع عنها، ولم يبقَ للفلسطينيات سوى رؤية رجالهم فحولاً لا يقبلون الإخصاء.

العالم العربي مليء بالرجال الذين لم يعد لديهم ما يخسروه ولا ما يُدافعون عنه سوى فحولتهم، وهذا ما لم تحسبه إسرائيل: المهانة أبشع من الموت!

ماذا لو قامت مصر؟ هذا وضعٌ خطير لم تواجهه الدولة العبرية منذ النكبة، شعوبٌ بلا أفق وبلا عمل، لم يبقَ لها سوى حرب الفحولة دفاعاً عن الكرامة.

نحن نتّجه سريعاً إما الى التسوية الكبيرة التي وحدها اسرائيل لا تريدها، بعد اكتمال عقد الأقوياء في الشرق الاوسط، وإما إلى حرب الكرامة التي لا يُمكن أن تربحها إسرائيل.

  • البروفسور بيار الخوري، أكاديمي وكاتب في الإقتصاد السياسي. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى