السلامُ في ليبيا يَتَطَلَّبُ أكثر من انتخابات

في آذار (مارس) الفائت تشكّلت حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في ليبيا لتوحيد الحكومتين المتنافستين:حكومة الوفاق الوني ومقرّها طرابلس والحكومة الليبية المؤقتة ومقرّها بنغازي. فهل تنجح في مهمتها حيث فشل الآخرون؟

الجنرال خليفة حفتر: أكبر عقبة لعودة الحياة السياسية الطبيعية إلى ليبيا.

خالد الديب*

في مثل هذا الوقت من العام الفائت، كانت العاصمة الليبية تواجهُ حملةً عسكرية استمرت عاماً وزادت من تدويل الانقسامات الخطيرة في البلاد. اليوم، يسودُ جوٌّ جديد من التفاؤل الحذر في طرابلس. في تشرين الأول (أكتوبر)، توصّل المفاوضون من الجانبين المُتحارِبَين الرئيسيين -حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة و”الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده الجنرال خليفة حفتر، المُتمركز في شرق ليبيا- إلى اتفاقٍ لوقفِ إطلاق النار سمح باستئناف عملية الحوار بقيادة الأمم المتحدة. وهذا الأمر بدوره مهّد الطريق أمام تشكيل أول حكومة مُوَحَّدة في ليبيا منذ انزلاق البلاد إلى حربٍ أهلية في العام 2014.

إن حكومة الوحدة الوطنية الجديدة تمنح الأمل في أن ليبيا الغنية بالنفط يُمكن أن تنتقل وتسير إلى الأمام بعد سبع سنوات من الصراع الدموي على السلطة. وقد تولّت هذه الحكومة سلطاتها في منتصف آذار (مارس)، حيث دخلت التاريخ مع ضمّها أول سيدة كوزيرة للخارجية وأخرى كوزيرة للعدل في البلاد. ومع ذلك، فإن التوترات العسكرية والسياسية والاقتصادية الكامنة التي غذّت الحرب الأهلية ما زالت مُستمرّة ويُمكنها أن تُعرقلَ عملية إعادة التوحيد الهشّة وتُخرجها عن مسارها.

الواقع أن التفويض الممنوح لهذه الحكومة التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، وهو رجل أعمال مؤثّر من مصراتة، ثالث أكبر مدينة في ليبيا، قصير، لكن التحديات أمامها كثيرة وكبيرة. وتتمثّل مهمّتها الأساسية في التخطيط وتوجيه البلاد نحو الانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها في 24 كانون الأول (ديسمبر)، الذكرى السنوية لاستقلال ليبيا، فضلاً عن معالجة أزمة الكهرباء التي طال أمدها ومواجهة انتشار جائحة كوفيد-19. وقد بدأت حكومة الوحدة الوطنية بدايةً مُهتزّة ومُتزعزعة: واجه نجاح الدبيبة في تولّي منصب رئيس الوزراء مزاعم عن شرائه بعض الأصوات في ملتقى الحوار السياسي الليبي، حيث اختار المندوبون الحكومة الجديدة.

في 16 نيسان (إبريل)، أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً يهدف إلى تعزيز السلام الحسّاس في ليبيا بنشر قوة قوامها 60 شخصاً لمراقبة وقف إطلاق النار. لكن التقدّم على المسار الأمني الذي تدعمه الأمم المتحدة ومصمَّمٌ لاستكمال ودعم العملية السياسية تباطأ، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى انعدام الثقة العميق بين الفصائل الليبية المدعومة من قبل مجموعة من المستفيدين الأجانب. يهدف هذا المسار في نهاية المطاف إلى توحيد القوات العسكرية للبلاد، لكن الممثلين من كلا الجانبين كافحوا وتعثّروا لتنفيذ أي شيء يتجاوز عدد قليل من إجراءات بناء الثقة.

الجنرال حفتر، القائد العسكري السبعيني الذي أدّت محاولته الفاشلة للاستيلاء على طرابلس من “حكومة الوفاق الوطني” في نيسان (إبريل) 2019 إلى نسف جهود السلام وتسبّبت في اندلاعِ قتالٍ دام أكثر من عام، ما زال مُتخفّياً في معقله في شرق ليبيا. وقد اتُّهِمَ حفتر منذ 2014 بالسعي إلى تنصيب نفسه حاكماً عسكرياً بدعمٍ من الإمارات وروسيا ومصر. كانت الشكوك حول طموحاته مُحرّكاً رئيساً للصراع، وكذلك المظالم القديمة بشأن كيفية إنفاق الثروة النفطية في البلاد. إن موقف حفتر الغامض تجاه الإدارة الجديدة في طرابلس -يتصرّف كما لو أن حكومة الوحدة الوطنية بالكاد موجودة– هو مصدر قلق نظراً إلى سجلّه الطويل في تقويض الجهود المبذولة للتوصّل إلى حلٍّ سياسي للأزمة الليبية.

أدّت محاولة حفتر المُغرية للاستيلاء على العاصمة قبل عامين إلى مقتل أو تشريد آلاف الأشخاص، بمَن فيهم العديد من المدنيين. وقد أُصيبَ الليبيون بالرعب في العام الفائت عندما تم اكتشاف مقابر جماعية في بلدة ترهونة، التي كانت تُسيطر عليها ميليشيات متحالفة مع حفتر وتستخدمها كقاعدة للهجوم على طرابلس. كما زاد هجوم حفتر من تعقيد الصراع المُتشابك أصلاً من خلال جذب لاعبين جدد من الخارج. كان المرتزقة الروس من “مجموعة فاغنر”، وهي شركة أمن عسكرية غامضة لها علاقات مع الكرملين، يقاتلون من أجل حفتر. واتهمهم الجيش الأميركي في الصيف الماضي بزرعِ ألغامٍ أرضية في مناطق سكنية بعد انسحابهم من ضواحي طرابلس.

في غضون ذلك، يبدو أن تركيا تتوقّع مردوداً كبيراً لتدخّلها العسكري، الذي جاء بناءً على طلب الحكومة المُحاصَرة في طرابلس والذي أحبط في نهاية المطاف هجوم حفتر. كان محور تدخل أنقرة هو طائرات مسيَّرة مسلحة تركية الصنع ونشر مقاتلين سوريين، لا يزال معظمهم في ليبيا. من ضمن قائمة الجهات الأجنبية الفاعلة في الصراع الليبي، هناك المرتزقة التشاديون والسودانيون الذين كانوا منذ فترة طويلة جزءاً من قوات حفتر وشاركوا في عمليته الفاشلة في العام 2019. عاد بعض التشاديين -المتمردين في بلدهم- أخيراً إلى ديارهم للقتال على الخطوط الأمامية نفسها حيث قُتل الرئيس إدريس ديبي، في تذكير عن كيفية انتشار الصراع الليبي خارج الحدود.

دعا مجلس الأمن في قراره في الشهر الماضي جميع الدول إلى احترام ودعم إتفاق وقف إطلاق النار المُوقَّع في تشرين الأول (أكتوبر)، بما فيه انسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة. في الواقع، بموجب شروط وقف إطلاق النار، كان من المُفترَض أن يكونوا غادروا بحلول نهاية شهر كانون الثاني (يناير). ولكن كما تبدو الأمور في ليبيا، غالباً ما تحلّ المواعيد النهائية وتذهب من دون تنفيذ.

كما أشار مجلس الأمن إلى أن الإطار الدستوري لانتخابات كانون الأول (ديسمبر) المقبلة يجب أن يكون ساري المفعول بحلول بداية تموز (يوليو)، لكن يبقى أن نرى ما إذا كان يمكن لليبيين التغلّب على خلافاتهم حول كيفية تنفيذ عملية الاقتراع بحلول ذلك الوقت. يُريدُ البعض إجراء انتخابات رئاسية -ستكون الأولى في التاريخ الليبي الحديث- بينما يخشى آخرون أن مثل هذا النظام قد يُعيدُ البلاد إلى الاستبداد. من المتوقع أن يلعب ما يسمى ب”الخضر”-مؤيدو نظام الدكتاتور الراحل معمر القذافي، والذين أصبحوا الآن أكثر ثقة مما كانوا عليه منذ الإطاحة به ووفاته في العام 2011- دوراً رئيساً في أيّ انتخابات مُستقبلية، مع شخصيات، من بينها نجل القذافي سيف الإسلام، كمرشحين مُحتَمَلين.

ويتساءل العديد من الليبيين عمّا إذا كانت الانتخابات الحرّة والنزيهة ستكون مُمكنة في ظل الوضع الأمني ​​الهشّ، وسكان مُستقطَبين بشدة بسبب سنوات الحرب والجو القمعي في شرق ليبيا، حيث تعرّض مُنتقدو حفتر للاضطهاد أو حتى الاغتيال بشكل مُتكرّر. هناك أيضاً مخاوف من أن التعامل مع الانتخابات على أنها دواءٌ لكلّ داءٍ في بلدٍ لم يعرف شيئاً سوى سياسات الخسارة الصفرية منذ العام 2011 لا يُخاطر فقط بتبديد التوقّعات ولكن أيضاً بالتصعيد العسكري. نظراً إلى ذلك، وحقيقة أن تجربة ليبيا الديموقراطية لا تزال حديثة نسبياً -صوّت الليبيون ثلاث مرات فقط في العقد الماضي- سيكون الدعم الدولي لضمان إجراء الانتخابات بسلاسة أمراً بالغ الأهمية.

والأكثر من ذلك، أن الدبيبة لم يتصرّف كرئيسٍ لإدارة مؤقتة بولايةٍ لتسعة أشهر، بل هو يتصرّف كشخصٍ يتوقّع أن يظلّ في المنصب في العام المقبل. فقد سعى إلى الحصول على موازنةٍ تقارب 100 مليار دينار، أو ما يقرب من 22 مليار دولار -وهي الأكبر في ليبيا منذ سقوط القذافي- لأجندة سياسته الطموحة، لكن البرلمان، الذي مزّقته الانقسامات الداخلية، رفضها في نيسان (أبريل). ومع ذلك، يبدو أن حكومة الوحدة الوطنية حريصة على إبلاغ المستثمرين الأجانب بشكلٍ خاص بأن ليبيا مفتوحة ومُنفتحة على الأعمال. خلال زيارةٍ قام بها أخيراً إلى تركيا، برفقة العديد من أعضاء حكومته التي تضم أكثر من 30 شخصاً، وقع الدبيبة عدداً من الاتفاقات الاستثمارية، بما فيها مشاريع بنية تحتية كبرى.

مع ذلك، هناك أسبابٌ للأمل. إن وقف إطلاق النار ما زال ساري المفعول، ومن المتوقع أن ينتعش الاقتصاد الليبي المُعتمِد على النفط وينجو من كارثة قريبة الوقوع التي سبّبها الحصار الذي فرضه حفتر منذ شهور على البنية التحتية للطاقة في البلاد، والذي وافق على رفعه في أيلول (سبتمبر) فقط. كما بدأت الحكومة الجديدة برنامج التطعيم ضد فيروس كورونا. وأعادت دولٌ عدة، وآخرها فرنسا، فتح سفاراتها التي كانت تعمل من تونس بعد إجلاء الديبلوماسيين من طرابلس في العام 2014. وتأمل الولايات المتحدة والصين أن يتمكن ديبلوماسييهما أيضاً من العودة قريباً.

بعد ما يقرب من عقدٍ من الصراع، أصبحت الرغبة في مسارٍ أكثر تفاؤلاً أمراً مفهوماً، لكن لا تزال هناك تحديات كبيرة. إن عدم معالجة الانقسامات المُتعدّدة في ليبيا أو تجاهلها على أمل أن تتمكّن الانتخابات الجديدة من حلّ الكثير مما تعانيه البلاد هو أمرٌ قد يؤدّي إلى العودة إلى العنف والمزيد من التشرذم. إن اتباع نهج أكثر شمولية، وهو النهج الذي يعترف أيضاً بطبقات الظلم والتظلم المتراكمة بعد سنوات من الحرب، سيساعد على منع تفكّك آخر.

  • خالد الديب هو صحافي مُتخصص في الشؤون الليبية ومبعوث “أسواق العرب” إلى ليبيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى