لماذا يُريدُ محمد بن سلمان فجأةً التحدّث إلى إيران؟

استمرت الاجتماعات السرية بين بعض دول الخليج (الإمارات والسعودية) وإيران منذ كانون الثاني (يناير) على الأقل، مدفوعة بشبح انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة.

الرئيس جو بايدن: هل يؤيّد بدء الحوار الأمني الإقليمي بين السعودية وإيران؟

تريتا بارسي*

قال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للتلفزيون السعودي هذا الأسبوع: “نسعى إلى إقامة علاقات جيّدة مع إيران … نحن نعمل مع شركائنا في المنطقة للتغلب على خلافاتنا مع إيران”. قبل أربع سنوات فقط، عزف الأمير الشاب لحناً مختلفاً، زاعماً أن الحوار مع إيران مستحيل. “كيف يكون لديك حوارٌ مع نظامٍ مبني على إيديولوجيةٍ مُتطرّفة؟”، قال، مُتعهّداً بأن السعودية ستنقل المعركة إلى الأراضي الإيرانية.

ما الذي تغيّر لجعله يتحوّل 180 درجة؟

هناك عاملٌ واحدٌ يلوح في الأفق أكثر من كل العوامل الأخرى: تزايد الدلائل على أن الولايات المتحدة جادة في تحويل تركيزها بعيداً من الشرق الأوسط. لم يكن الأمر يتعلق بأي شيء فعلته واشنطن، بل ما أوقفت فعله واشنطن –أي طمأنة شركائها الأمنيين في المنطقة بأنها ستواصل دعمهم من دون قيد أو شرط، بغض النظر عن السلوك المتهوّر الذي ينخرطون فيه. إن ابتعاد أميركا عن التورّط في خلافات ومغامرات شركائها في الشرق الأوسط أجبر قوى المنطقة على استكشاف ديبلوماسيتها الخاصة. على عكس توقعات “يوم القيامة” لمؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، لم تنفجر الفوضى بسبب الانسحابات العسكرية الوشيكة للولايات المتحدة من المنطقة. بدلاً من ذلك، إندلعت الديبلوماسية الإقليمية وانتعشت.

كانت تعليقات الأمير محمد بن سلمان المُهدّئة، على الأرجح، إشارة إلى محادثات سرّية بين إيران وجيرانها العرب في العراق، والتي ذكرتها لأول مرة صحيفة “فايننشال تايمز”، والتي كانت تهدف إلى تخفيف التوترات ووضع حدٍّ للحرب في اليمن. رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي لديه مصلحة واضحة في حل التوترات السعودية-الإيرانية، بعدما صار العداء وتقاتل الوكلاء في جميع أنحاء المنطقة يُهدد بمزيد من زعزعة استقرار العراق، عمل جاهداً على تسهيل المحادثات العربية-الإيرانية.

في البداية، نفى مسؤولون سعوديون الخبر، فيما رفضت طهران التعليق، إلّا بالقول إنها ترحب بالحوار مع الرياض.

لكن هذا الإنكار ببساطة لم يُثبت عدم صحة الخبر. تبيّن في ما بعد أن قصة الفايننشال تايمز ليست سوى غيضٍ من فيض.  لقد كشف موقع “أمواج ميديا” (Amwaj.media) الإخباري ومقره بريطانيا أن الحوار لم يقتصر على إيران والسعودية، بل عُقِدَ الاجتماع الأول بين إيران والإمارات في كانون الثاني (يناير)، تلته اجتماعات ضمّت مسؤولين سعوديين وأردنيين ومصريين. وعُقِدَت خمسة اجتماعات من هذا النوع على الأقل منذ بداية العام، بحسب “أمواج”.

في حين أن المحادثات السرية قد ركّزت بشكلٍ أساس على الحرب في اليمن، فقد شملت أيضاً الوضع في سوريا ولبنان. وشملت المحادثات كبار المسؤولين الأمنيين في دول مختلفة، بما في ذلك لقاء بين قائد فيلق القدس الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، ورئيس الإستخبارات العامة السعودية، الفريق خالد الحميدان.

من الواضح أن هذه المحادثات لا تزال في بدايتها، وهناك احتمالٌ واضحٌ بأنها قد تفشل في سدّ الفجوة بين إيران وخصومها العرب. ومع ذلك، يشير العديد من العوامل إلى قدرة هذه المحادثات على تغيير ليس فقط مسار العلاقات السعودية-الإيرانية ولكن أيضاً الوضع الأمني ​​الأوسع في المنطقة. أوّلاً، بناءً على تقرير “أمواج”، تُشير حقيقة أن المحادثات تضم العديد من القوى الإقليمية الأخرى إلى جانب المملكة العربية السعودية وإيران إلى أنها تشبه الحوار الإقليمي الذي تشتدّ الحاجة إليه، وليس مجرد مفاوضات ثنائية لنزع فتيل التوترات. من المعروف أن الشرق الأوسط يفتقر إلى المؤسسات، بمعنى أنه يفتقر إلى أي نوع من التنظيم الإقليمي الشامل أو المنتدى الذي يُغذّي ويُهَيكل حواراً متعدد الأطراف بغرض الحدّ من التوترات، وخلق خيارات لخفض التصعيد، وإدارة انعدام الثقة.

السبب الثاني للتفاؤل هو أن هذا الحوار الإقليمي الجنيني يبدو أن القوى الإقليمية نفسها قد بدأته وقادته. أي أنه لم يُفرَض عليها من قبل قوى كبرى من خارج المنطقة، ولم تَقُدها دول خارجية. وكما كتبتُ أنا وزملائي في معهد كوينسي في مكان آخر، فإن القيادة الإقليمية وملكية هذه العملية ضرورية لنجاحها واستمراريتها.

لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة لم تُساهم في هذه العملية. إنها بالتأكيد ساهمت -ولكن ليس بالطريقة التي تتصوّرها مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن تقليدياً للقيادة الأميركية.

العامل الوحيد الذي أجبر الجهات الفاعلة في المنطقة على اللجوء إلى الديبلوماسية ليس إعادة التزام الولايات المتحدة بدعم الرياض في مواجهة طهران أو أي مبادرة ديبلوماسية جديدة للمنطقة. بدلاً من ذلك، فإن العكس هو الذي حفّز المحادثات: إشارات واضحة على نحو متزايد إلى أن أميركا تنفصل وتنسحب عسكرياً عن الشرق الأوسط.

الواقع أنه كان لدى الرئيس الأميركي جو بايدن دائماً وجهة نظر مُتشكّكة بشأن الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، فضلاً عن العلاقات الأميركية مع الشركاء في المنطقة الذين يميلون إلى جرّ واشنطن إلى خلافاتهم وأجنداتهم. لقد اشتهر بانتقاد وتوبيخ تركيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في حديث في جامعة هارفارد في العام 2014. “الأتراك … السعوديون، الإماراتيون، إلخ… ماذا كانوا يفعلون؟” سأل طلاب جامعة هارفارد. “لقد كانوا مُصمّمين للغاية على إسقاط [الرئيس السوري بشار] الأسد ولديهم بشكل أساسي حرب بالوكالة بين السنّة والشيعة. ماذا فعلوا؟ لقد ضخّوا مئات الملايين من الدولارات وعشرات الآلاف من الأطنان من الأسلحة ودعموا أي طرف سيقاتل ضد الأسد”.

خلال الحملة الرئاسية لعام 2020، تعهّد بايدن بسحب “الغالبية العظمى” من القوات الأميركية من أفغانستان، وقطع المساعدات عن المملكة العربية السعودية لحربها في اليمن، وإعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي الإيراني -وهي ثلاثة قرارات تتناسب تماماً مع أجندة تقليص دور الولايات المتحدة في المنطقة.

في الواقع، بمجرّد وصوله إلى المكتب البيضاوي، تحرّك بايدن سريعاً لإنهاء الدعم الأميركي للجانب السعودي في حرب اليمن، وأبقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعيداً، وأعلن الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من أفغانستان، وبعد بداية صعبة، أصبح جاداً بشأن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني.

كانت الرسالة الموجهة إلى القوى الإقليمية واضحة: الشرق الأوسط هو أولوية لإدارة بايدن فقط من أجل إيجاد طرق لتقليل حجم الإنخراط الأميركي هناك. وكما قال مستشار غير رسمي لبايدن لموقع “بوليتيكو”: “إن الإدارة تعمل بشكل هادف للغاية لعدم الانجرار إلى الشرق الأوسط”.

ليس من المستغرب أن هذه الرسالة دفعت القوى الإقليمية إلى البدء في استكشاف الديبلوماسية مع منافسيها لسبب بسيط: لقد كانت الفرص الديبلوماسية موجودة طوال الوقت ولكن ينظر إليها شركاء الولايات المتحدة على أنها دون المستوى الأمثل مُقارنةً بالاعتماد ببساطة على واشنطن لدعمهم وحلّ مشاكلهم. إن وجود أميركا في الخلفية لردع أو احتواء أو القضاء على أي مشكلة سعودية عسكرياً، على سبيل المثال، كان أفضل بالنسبة إلى القيادة السعودية من التفاوض مع إيران حيث كانتا تعلمان أنه سيؤدي حتماً إلى تنازلات مؤلمة لكلا الجانبين. طالما كان لدى السعوديين ما يرون أنه خيارٌ أميركي، كانت المواجهة تُعتبر أفضل من الديبلوماسية.

إن محور بايدن المنشود بعيداً من الشرق الأوسط يعني أن خيار الولايات المتحدة هذا، على الأقل، أصبح غير موثوق به. فجأة، أصبحت الديبلوماسية الإقليمية الخيار المفضل لشركاء واشنطن الأمنيين في الشرق الأوسط.

كان من المرجح أن يدفع تحوّل الولايات المتحدة المُبكر بعيداً من المنطقة الديبلوماسية الإقليمية للبدء والإنطلاق في وقت أقرب. في الواقع، شُوهِدَ نمطٌ مُماثل في العام 2019 عندما رفض يومها الرئيس دونالد ترامب الدخول في حربٍ مع إيران بسبب الهجمات على حقول النفط السعودية من قبل وكلاء طهران في اليمن، الأمر الذي دفع السعوديين إلى الانخراط في ديبلوماسيتهم الخاصة مع إيران وتقليل العدوان في اليمن. في الواقع، عندما اغتيل قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على يد القوات الأميركية، كان وصل لتوّه إلى العراق لإيصال رسالة إلى السعوديين عبر بغداد. بقتل سليماني، قتل ترامب أيضاً المحادثات السعودية-الإيرانية. لقد أعادت إدارته التزامها بالمواجهة مع إيران، وتكيّف السعوديون مع هذا الواقع: لا مزيد من الديبلوماسية السعودية-الإيرانية.

الدرسُ المستفاد لواشنطن واضح: إذا تراجعت الولايات المتحدة عسكرياً، فسيدفع ذلك الشركاء الإقليميين إلى اتخاذ خطوة ديبلوماسية إلى الأمام.

هذا بالطبع لا يعني أن اندلاع أو بدء الديبلوماسية الإقليمية هذه مُقدَّرٌ لها أن تنجح. قد لا يكون الأمر كذلك. لكن مهمة إنجاحها ستقع في المقام الأول على عاتق القوى الإقليمية نفسها وليس على عاتق الولايات المتحدة. وهذا مكسبٌ لكلٍّ من الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

  • تريتا بارسي هو نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي للحكم المسؤول. يمكن متابعته عبر تويتر: @tparsi
  • يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في “فورين بوليسي”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى