الإفطارُ المُكلِف في العالم العربي

كابي طبراني*

للعام الثاني على التوالي، يستقبل المسلمون في أنحاء العالم شهر رمضان المبارك في ظل جائحة كوفيد-19 بكل تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. ومع أن تأثير الجائحة في المجتمعات الإسلامية خلال رمضان الفائت كان قاسياً، فهو في هذا العام أشدّ قسوة، إذ أن رمضان الماضي جاء بعد أشهرٍ قليلة على تفشّي الوباء عالمياً، في حين يأتي هذا العام وقد عصفت الجائحة بكل أرجاء العالم عبر موجاتٍ مُتتالية من التفشّي كانت لها تداعياتها على كل المُجتمعات.

ويحلّ رمضان هذا العام، وقد فقدت أُسَرٌ كثيرة في الدول العربية أحبّة لها بسبب الوباء، كما يحلّ في ظلّ مُعاناةٍ مُتفاقمة داخل الأسر التي تُكافح لتدبير متطلبات الحياة بعد أن فقد الكثيرون من أفرادها وظائفهم بسبب الجائحة، وفي ظل حالة كسادٍ يُعاني منها معظم الاقتصادات العربية. كما وصل التأثير السلبي إلى الأنشطة الخيرية، والتي كانت سمة مميزة لشهر رمضان، حيث أظهرت تقديرات عدة تراجع إسهامات الأثرياء ورجال الأعمال في الأنشطة الخيرية الرمضانية هذا العام بفعل تأثر أنشطتهم وأعمالهم وتراجعها.

وخلال رمضان، لا يكون الطعام بعيداً من الذهن. في الواقع، هو جزءٌ من الإنضباط الذي يمنحه الشهر الكريم لمَن يختارون الصوم. في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تجتمع العائلات ليلاً لمشاركة وجبة الإفطار مع أحبائها، وكذلك يتجمّع المسلمون بأعداد كبيرة لأداء صلاة التراويح ليلاً، وكلّها عادات وطقوس يبدو أنها لن تجد لها نصيباً هذا العام أيضاً بسبب جائحة كورونا المُستمرّة.

ومما يزيد الأمر صعوبة حقيقة أن أسعار المواد الغذائية قد ارتفعت بشكلٍ مطرد في الأشهر الأخيرة في أجزاءٍ من العالم العربي، حيث وصلت إلى مستويات غير مسبوقة منذ سنوات. يُشير مؤشّر الأسعار الشهري الذي جمعته منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلى أن أسعار الغذاء العالمية ارتفعت بنسبة 2 في المئة في آذار (مارس)، مُقارنةً بشهر شباط (فبراير). كان هذا الارتفاع الشهري هو العاشر على التوالي وأعلى نقطة منذ حزيران (يونيو) 2014.

هناك عددٌ لا يُحصى من العوامل الكامنة وراء ظاهرة تضخّم الغذاء الحالية، من ارتفاع الطلب الناجم عن الوباء، إلى إعادة التوازن في أسواق السلع الغذائية في الصين، إلى أنماط الطقس غير الموسمية في أميركا الجنوبية. لكن في العالم العربي، حيث غالبية البلدان مستوردة صافية للأغذية، لا سيما المواد الغذائية الأساسية مثل الحبوب، تكون الآثار حادة وشديدة بشكل خاص.

لا يُعتبَر الوضع الحالي رهيباً كما حدث في فترة 2008-2012، عندما ساهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية في معظم أنحاء المنطقة. لكن هذا الاتجاه لا يزال مُقلقاً، خصوصاً بالنسبة إلى البلدان الفقيرة، وهو يؤدي إلى تفاقم الاضطرابات الاقتصادية الأوسع نطاقاً التي يمرّ بها بعضها راهناً.

سوريا، التي شهدت فعلياً حرباً أهلية أدّت إلى انهيار عملتها، تتعرّض لضغوطٍ تضخّمية هائلة. كان العديد من الأثرياء السوريين يحتفظون سابقاً بمدّخراتهم في حساباتٍ بالدولار في مصارف بيروت، لكن حتى مخزون الثروة هذا تبخّر نتيجة الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في لبنان، والتي أدّت إلى مستويات مُدمّرة من التضخم وفرض قيود صارمة على رأس المال هناك. لقد وجد “مؤشر فتّوش” التابع للجامعة الأميركية في بيروت، والذي سُمِّي على اسم طبقِ سلطة شهير ويقيس تكلفة مكوّناته، أن الأسعار تضاعفت في العام الفائت. ويُقدّر بأن تكلفة وجبة الإفطار لأسرة مكوّنة من خمسة أفراد قد ارتفعت إلى 1.5 مليون ليرة لبنانية، وهو أكثر من ضعف الحد الأدنى للأجور في لبنان.

في غضون ذلك، إضطرت الحكومة في العراق إلى خفض قيمة العملة الوطنية بنسبة 23 في المئة مقابل الدولار، ما تسبّب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل أكبر. كما ذكرت تقاريرٌ متطابقة عدة خلال هذا الشهر بأن العديد من محلات السوبر ماركت في بغداد خالية من المتسوّقين، حيث تتخلّى العائلات عن وجبات رمضان في محاولة للادّخار.

والأمر الذي لا يساعد كثيراً هو أن الكثيرين من مورّدي المواد الغذائية قد استغلّوا الطلب المُرتفع أثناء الوباء لزيادة هوامش ربحهم من خلال رفع الأسعار. في الخليج، إستجاب صنّاع السياسة بتخفيضات أو سقوف مفروضة قانوناً للأسعار. فمثلاً في الإمارات العربية المتحدة، أعلنت الحكومة عن تخفيضات على 30 ألف مادة غذائية خلال شهر رمضان. لكن أدوات السياسة هذه قابلة للتطبيق فقط في البلدان التي تتمتّع بالحَوكَمة الرشيدة والاستراتيجية الاقتصادية وسيادة القانون. في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، سيضمن الإصلاح البنيوي الدراماتيكي فقط أن يتمتّع الجميع برمضانٍ في المستقبل، بغضّ النظر عن وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي، بالروح الحقيقية للشهر الكريم.

وكل رمضان وأنتم بخير.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب”. ألّف كتباً عدة بالعربية والإنكليزية من بينها “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)، و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى