اللامركزية في لبنان ليست مُحايِدة

زياد بارود*

لعقودٍ، كانت اللامركزية فكرةً تُطرَح بتكرارٍ واستمرار في السياسة اللبنانية. وكونها “إدارية” لا يجعلها أقلّ “سياسية” في بلدٍ حيث حتى التفاصيل التقنية البسيطة يُمكن أن تتحوّل بسهولة إلى خلافاتٍ كبيرة. ومع ذلك، لا يزال يُنظَر إلى اللامركزية على أنها أحد الإصلاحات الرئيسة التي لم تتحقّق بعد.

منذ اتفاق الطائف في العام 1989 –الإتفاق الذي أنهى حرب لبنان ومهّد الطريق أمام التعديلات الدستورية لعام 1990- تمكّنت اللامركزية من أن تصبح مقبولة من الجميع بين مختلف الجماعات السياسية. بالنسبة إلى البعض، كانت النتيجة نصراً لكفاحٍ طويلٍ وصعب. وبالنسبة إلى آخرين، كانت على ما يبدو أهوَن الشرَّين لأنها تُثبط السعي إلى الفيدرالية. ومع ذلك، بالنسبة إلى جميع المجموعات، فإن اللامركزية ليست مُحايِدة: فهي تؤثّر سلباً في الساحة السياسية “المُقدَّسة” من خلال تحويل ميزان القوى من الحكومة المركزية إلى السلطات المحلية، وبالتالي تحدُّ من توفير الموارد الضرورية لمصالح السياسيين. يذهب هذا إلى حدٍّ ما نحو تفسير الفشل المُتعمّد في تطبيق اللامركزية الإدارية على نطاق واسع، كإصلاحٍ، بعد أكثر من ثلاثة عقود على الطائف.

بغض النظر عن شكلها، تتميّز اللامركزية بإنشاءِ كياناتٍ قانونية مُنتَخَبة محلّياً، لكلٍّ منها شخصية اعتبارية وتتمتّع باستقلالٍ إداري ومالي. حتى الآن، تمّ تطبيق اللامركزية الإدارية في لبنان على المستوى البلدي فقط. في جميع الحالات الأخرى، ينطوي أيّ نقل للصلاحيات على تفويض من السلطة المركزية إلى موظفين  تُعَيِّنهم هي.

تاريخ اللامركزية في لبنان

تمّ إدخال اللامركزية لأول مرة في المعجم السياسي اللبناني من قبل الرئيس إميل إدّه في ثلاثينات القرن الماضي. في الستينات الفائتة، انضمت الحركة الوطنية اللبنانية وكمال جنبلاط للمطالبة بها. في الثمانينات، اعتبرت الكتائب والقوات اللبنانية اللامركزية بديلاً من الفيدرالية التي لم يُقدَّر لها أن تتبلور في مشروعٍ مُتكامل. على الرغم من الدعم الذي تلقّته من مختلف الجهات الفاعلة في العقود العديدة التي تلت إعلان الجمهورية اللبنانية، إلّا أن اللامركزية لم تتبلور كلّياً.

في العام 1989، أعطى اتفاق الطائف اللامركزية دفعاً جديداً، في محاولةٍ لفرضها كجزءٍ من إجماع وطني واسع النطاق. وهذا يعني، إلى حدٍ ما، أنه يُمكن اعتبارها من قبل الجماعات السياسية والحزبية والطائفية على أنها مُحايدة من حيث أنها لم تُخلّ بتوازن “حقوقها المُكتَسَبة”. هذا الأمر يُفسّر جزئياً الجمود الذي واجهته اللامركزية تاريخياً ولا تزال تواجهه اليوم: يَوَدُّ البعض أن يراها محصورة في تقنية ثانوية، بينما يعتقد البعض الآخر أنها يُمكن أن تؤدي إلى تحوّلٍ كبير في السياسة اللبنانية. بالمعنى السابق، يُمكن أن تكون مُحايدة. ومع ذلك، فإن الأمر ليس كذلك بالتأكيد في الأخير، حيث يُمكن أن تُعيد اللامركزية تشكيل المشهد الوطني، وتؤدي إلى ديناميات جديدة، وتكسر قبضة الحكومة المركزية، وتؤدّي إلى مشاركةٍ أوسع في الحَوكمة الديموقراطية. كما يُنظَرُ إليها على أنها استراتيجية مهمّة لمكافحة الفساد لأن من شأنها تحسين المُساءلة وخفض منسوب  الاستنسابية لدى النخب السياسية.

على الرغم من التفاهم الجامع حول اللامركزية في اتفاق الطائف، إلّا أن الجمود الموصوف أعلاه منع لبنان من الاستفادة من نظامٍ لامركزي شامل منذ العام 1989. وقد تمّ منذ ذلك الحين تقديم ما لا يقل عن خمسة إقتراحات ومشاريع قوانين، لم يصل أيٌّ منها إلى مرحلة التصويت. كان بعضها مُعيباً بشكل سيّئ وأقرب إلى سوءِ فهمٍ فوضَوي لما تعنيه وتستلزمه اللامركزية حقاً.

في العام 2012، شكّل رئيس الوزراء نجيب ميقاتي لجنةً خاصة مُهمّتها إعداد مشروع قانون بشأن تطبيق اللامركزية الإدارية. وقد أنجزت اللجنة مهمتها وقدّمت أول مشروع قانون شامل مع تقريرٍ مُفَصَّل يُحدِّد ويشرح الخيارات الاستراتيجية التي اتّخذتها. إن مشروع القانون هذا -الأحدث من نوعه- لا يدّعي أنه مثالي وهو قابل للإضافات ومزيدٍ من التطوير، لكنه يُوفّر بلا شك منصّة مُتكاملة للامركزية. لكنّ مسودة المشروع انتظرت حتى 2016 قبل أن تصل إلى مجلس النواب اللبناني. بعد خمس سنوات، لا تزال “قيد المناقشة” في لجنة برلمانية خاصة، ما يقول الكثير عن وتيرة الإصلاح في لبنان.

قضية اللامركزية

الإصلاحات ليست مُحايدة ولا ينبغي أن تكون كذلك. في ما يتعلق باللامركزية في لبنان، هي مسألة خيارات  رئيسة وليست تقنيات ثانوية. وقد تمّت دراسة هذه الأخيرة، في الواقع، بالتفصيل. إن كون اللامركزية إحدى أدوات الحكم المحلي الرئيسة، فهذا لا يجعلها أقل سياسية. وإذا كانت عملية صياغة السياسات مركزياً قد فشلت، بوضوح، في توفير الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فمن المتوقّع على نطاق واسع أن تُوفّر اللامركزية بدائل تستحق الدراسة. ولكن لكي تنجح اللامركزية، فإنها تتطلّب أيضاً لامركزية مالية مُتَّسقة. يجب أن تترافق  الصلاحيات الممنوحة للهيئات المحلية المُنتَخبة مع إيراداتٍ مُناسبة.

طرح بعض السياسيين والخبراء الفيدرالية كبديلٍ من اللامركزية. هنا ليست المشكلة. ففي حين أنه من المشروع تماماً لمؤيدي الفيدرالية أن يُطالبوا بها ويدافعوا عنها، فإن المَفهومَين يختلفان اختلافاً جوهرياً – تماماً كما الآليات العائدة لكلٍّ منهما، والأهم، درجة الحكم الذاتي المحلي. ويدعم قضية اللامركزية اعتباران رئيسان: الإلتزام بالإجماع منذ اتفاق الطائف وحقيقة أن الفيدرالية لا يُمكن أن تُقدّم إجابات أفضل من اللامركزية في ثلاثة مجالات إشكالية رئيسة، وهي: السياسة الخارجية واستراتيجية الدفاع والسياسة النقدية. في كلا النظامَين، تبقى المجالات الثلاثة في أيدي الحكومة المركزية.

اللامركزية ليست غاية في حدِّ ذاتها. إنها وسيلة لضمان مشاركة محلية أكبر، ومزيد من المُساءلة، وديموقراطية أكثر ديمومة واستدامة. لقد خلقت الأزمة اللبنانية الحالية زخماً قوياً للعودة إلى اللامركزية، لا سيما وأن الفكرة تكتسب زخماً في المجتمع المدني اللبناني. يجب أن يُنظَر إليها على أنها بوابة الإصلاح الهيكلي للنظام من الداخل. من خلال عدم كونها مُحايدة، فإن اللامركزية هي موقفٌ في حد ذاتها، من خلال الأساسيات التي تنطوي عليها، والديناميكيات التي تخلقها، والنتائج التي تُحقّقها. على مرّ السنين، لم تكن الجهود المبذولة لتأخير اعتماد اللامركزية بريئة على الإطلاق. وفي الوقت الذي تتوقّف مؤسسات الدولة عن العمل أو تنهار تماماً، فإن عواقب هذا التأخير تجعله عملاً إجرامياً. يحتاج لبنان اليوم إلى تغييرٍ ثوري على الصعيد الوطني مع نظامِ حكمٍ جديد يتّسم بالشفافية والمُشاركة والتمثيل. تستطيع اللامركزية أن تدعم إعادة إحياء مؤسسات الدولة، التي تشتدّ الحاجة إليها، من القاعدة إلى القمة.

  • زياد بارود هو وزير الداخلية والبلديات السابق في لبنان بين العامين 2008 و2011. وهو محام ومحَكّم قانوني، يُحاضر في كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف. شغل منصب رئيس اللجنة الخاصة (الحكومية) حول اللامركزية، التي أعدّت مشروع القانون الذي هو الآن قيد المناقشة في البرلمان. الآراء الواردة في هذه المقالة هي آراؤه الخاصة. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @ZiyadBaroud
  • يصدر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” بعد صدوره بالإنكليزية على موقع معهد الشرق الأوسط في واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى