الجائحة تُوقِعُ غزّة في مأزقٍ خطير

مع اختلاط الآثار الحادة لوباء كورونا بالديناميكيات السياسية والاقتصادية المُعقّدة، تكافح القيادة الفلسطينية في غزة لمعالجة أزمة الرعاية الصحية المُسيَّسة على نحوٍ متزايد.

مواد فحص كورونا نفدت في غزة…

بقلم الدكتورة منى جبريل*

في الوقت الذي تكافح أنظمة الرعاية الصحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة للتعامل مع كوفيد -19، تُظهِرُ تطوراتٌ جديدة مثل صفقات التطبيع، والمفاوضات الإسرائيلية مع الفلسطينيين بشأن اللقاحات ومساعدات الإغاثة، وخروقات الإرشادات الصحية احتجاجاً على تخفيضات الأونروا للمساعدات، مدى تسييس الإستجابة للوباء. إن تسييس قطاع الرعاية الصحية في غزة هو إرثٌ من الاحتلال الذي يستمر في التأثير في حياة الفلسطينيين، وأزمة كوفيد-19 الحالية ليست استثناءً.

عقودٌ من الاحتلال تركت غزة بدون قطاع رعايةٍ صحّية مُتماسِك؛ مُجَزَّأ من حيث صنع القرار والمُلكية وآليات التمويل. تنساب هذه التأثيرات بشكل كبير، الأمر الذي يُعيق قدرة الحكومة المسؤولة على تقديم الخدمات والتخطيط والتعاون. يُعاني القطاع من الاعتماد المستمر على المساعدات الخارجية -لا سيما من خلال الأونروا- ما جعله عرضةً للأجندات السياسية المحلية والدولية المُتنافسة. لقد أثّر قرار إدارة دونالد ترامب بوقف التمويل الأميركي للأونروا في الضفة الغربية وقطاع غزة على البرامج التي تخدم آلاف الأشخاص. ونتيجة لذلك، تُركت الأونروا في مواجهة عجز مالي غير مسبوق – ما شكّل تهديداً لتوزيع الغذاء على مليون شخص ومنع التخطيط المستقبلي. في ضوء هذه التحديات التي تواجه مرونة الأونروا في المستقبل، فإن المنظمة الأساسية للعديد من سبل العيش الفلسطينية تُثبطها المعاناة المستمرة لدفع رواتب موظفيها وتمنعها من الحفاظ على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية. على الرغم من الحد الأدنى من الجهود المحلية والدولية لعزل قطاع الصحة في غزة، فقد فشلت هذه المساعي في معالجة السياقات السياسية والاقتصادية التي تساهم في تدهور الوضع فيها – مما يقلل من فعاليتها في المدى الطويل.

بين آذار (مارس) وكانون الأول (ديسمبر) 2020، أبلغت سلطات غزة عن إصابة 33,594 شخصاً بكوفيد -19 ووفاة 260  آخرين. لقد تركَّزَ رد حكومة “حماس” الفوري على عزل الإصابات المُحتَملة قدر الإمكان داخل حدود القطاع. إن فرض الحجر الصحي الإلزامي على العائدين العابرين عبر معبر رفح مع مصر أو معبر “إيريز” الإسرائيلي، وعزل وإجراء دوريات في المناطق عالية الإصابة، وفرض الإغلاق، وبناء مراكز الحجر الصحي، كل ذلك يشير إلى وعي القيادة بالتهديد الذي يُشكّله الفيروس الذي لم يتم احتواؤه والسيطرة عليه، ومسؤولية استخدام جميع التدابير الممكنة لمنع وقوع كارثة صحية في غزة. كما وصلت حكومة “حماس” إلى نقطةٍ اجتماعية حساسة للسيطرة على انتشار الفيروس: الإغلاق المُبكِر للمؤسسات القانونية والتعليمية، والتطهير البارز للأماكن العامة، وتعليق صلاة الجمعة، وتمكين الإنتاج المحلي لأقنعة الوجه ومعدات الوقاية الشخصية، والنشر المُتّسق لمعلومات الصحة العامة، وتعزيز تدريب الممرضات والمسؤولين الصحّيين على بروتوكول الطوارئ لكوفيد-19. على نطاق واسع، إمتثل معظم سكان غزة للقيود الإضافية على الحركة، ولكن بدرجة أقل مع الإرشادات الصحية الخاصة بالفيروس، نظراً إلى مركزية الشعائر والعادات الاجتماعية في الحياة في غزة. على الرغم من الجهود المبذولة لإشراك المجتمع الدولي، أبلغت الحكومة عن نقصٍ مُتكرّر في أدوات الاختبار وطلبت من منظمة الصحة العالمية والسلطة الفلسطينية في رام الله تقديم المساعدة اللازمة. في النهاية، أدى الافتقار إلى القدرة على تنسيق استجابة وطنية فلسطينية إلى الحدّ من فعالية أي خطة لحكومة “حماس” لاحتواء الوباء وتداعياته الاجتماعية والاقتصادية في غزة.

على الرغم من أن هذه الإجراءات قد وفّرت إغاثة في المدى القصير، إلّا أنها قد لا تكون كافية لموجات أكثر حدة من كوفيد-19 من دون فرض تكاليف بشرية وتنموية عالية على غزة. مثل هذه الذروة في حالات كورونا من شأنها أن تطغى على قدرة نظام الرعاية الصحية في القطاع. تُظهر المرافق والخبرات المحدودة، إلى جانب نقص أجهزة التهوية والتنفس ومعدات الاختبار، أن مستشفيات غزة تُكافح بالفعل للتعامل مع كوفيد-19 وحالات الطوارئ الصحية الطارئة الأخرى. ويعتبر مرضى الأمراض غير السارية -المصابون بأمراض الرئة والقلب المزمنة والسرطان والسكري- من بين أكثر المصابين به. نظراً إلى أن المستشفيات المُثقلة بالأعباء غير قادرة على استيعاب هذه الأمراض الأكثر شيوعاً، يلجأ المرضى إلى العلاج في المنزل في ظل ظروف غير مناسبة. يحتاج بعض المرضى إلى علاجات، مثل العلاج الكيميائي أو العلاج الإشعاعي، التي تتطلب الإحالة إلى دول أخرى أو إلى المستشفيات الإسرائيلية. لكن إصدار التصاريح الطبية لإسرائيل انخفض بنسبة 90٪، مقارنة بمعايير ما قبل كوفيد-19.

يعتمد قطاع الرعاية الصحية على المساعدات الخارجية الحيوية. على الرغم من أن المنظمات الدولية والجهات المانحة الخاصة قدمت بعض مساعدات كوفيد-19 إلى غزة، إلّا أنها لا تزال أقل بكثير من احتياجات السكان. لقد أدّت التخفيضات المالية الأميركية للأونروا -التي تُقدم الغذاء والتعليم الضروري والخدمات الصحية للاجئين في غزة- إلى تفاقم الوضع الصعب أصلاً. أدّى تراجع الخدمات في القطاع إلى اندلاع احتجاجات، لا سيما أمام مركز تابع للأونروا في مخيم جباليا، مؤكدة على الطبيعة التي لا غنى عنها لمساهمات هذه المنظمة في الكفاف الفلسطيني. بالنسبة إلى الفلسطينيين، لا يُعتَبَر استمرار دعم الأونروا مُنقذاً للحياة فحسب، بل يُضفي أيضاً الشرعية على وضع اللاجئين الذي طال أمده. يشعر سكان غزة بالقلق من أن الأونروا تحاول حل أزمتها المالية من خلال سحب مسؤوليتها تجاه الشعب الفلسطيني بدلاً من العمل على إيجاد تفويضٍ دولي طويل الأمد لحل التحديات المالية المستمرة وتحقيق الاستقرار في عملياتها في الجَيب الساحلي. إن التحوّلات الدراماتيكية في برامج الأونروا إلى جانب الأعباء الهائلة للوباء تجعلان العائلات التي تعتمد على هذه الإغاثة مُعرّضة بشكل غير مستقر لمزيد من انعدام الأمن والتسييس.

أدى الوباء إلى تسريع تدهور الوضع السياسي الفلسطيني في غزة. إستخدمت إسرائيل ودول عربية رئيسة الوباء كغطاءٍ لإعلان خطط الضم والتطبيع، واحتواء المقاومة الشعبية في الأراضي الحتلة وفي الداخل. علاوة على ذلك، قامت إسرائيل بابتزاز الشعب الفلسطيني وحكومة “حماس” من خلال اشتراط تقديم المساعدات الإغاثية لكوفيد -19 بإعادة رفات جنديين إسرائيليين قُتلا في حرب 2014. حاول الفلسطينيون في غزة الضغط على إسرائيل لتحمّل المسؤولية كدولةٍ مُحتلة لقطاع غزة لتقديم الدعم اللازم للتعامل مع الأزمة الصحية. على الرغم من أن إسرائيل قدمت بعض المساعدة، بما في ذلك توفير جرعات اللقاح لغزة، فإن الدعم الإسرائيلي بعيد كل البعد من الإيثار أو محترم للرغبات الفلسطينية. قد يكون تفشّي المرض في غزة بمثابة كابوس لإسرائيل: فقد يؤدي إلى زيادة التدقيق العالمي في المسؤولية الإسرائيلية عن الأزمة الإنسانية ونشر العدوى إلى الإسرائيليين. ولكن في الوقت الذي تكافح مستشفيات غزة، شنت إسرائيل هجمات جوية عدة على القطاع ومنعت شحن لقاحات فيروس كورونا “سبوتنيك V” (Sputnik V) الروسية – المخصصة للعاملين الصحّيين في الخطوط الأمامية.

على الرغم من أن التحديات السياسية في غزة لا تنجم عن الوباء وحده، إلّا أن المعضلات الحزبية المُتنافسة تُهدّد بإرباك الأنظمة الحساس، ما يمنع التقدّم في أيٍّ من الأهداف الحيوية للقطاع. إن صفقات التطبيع الأخيرة تكسر الإجماع العربي التاريخي على تسوية “الأرض مقابل السلام” وتُحافظ على الاحتلال. ولحماية الشرعية الفلسطينية وتجنّب الإضطرابات المدنية ضدها كأحزابٍ حاكمة، بدأت حكومتا السلطة الوطنية الفلسطينية و”حماس” عملية مصالحة بالموافقة على تنظيم أول انتخابات منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً. من غير المؤكد كيف سيتم تنفيذ الاتفاق وماذا قد تعنيه الانتخابات بالنسبة إلى “حماس” وغزة. والذي أدّى إلى تفاقم الحجر الصحي الإلزامي الوبائي، بين أيار (مايو) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2020، المواجهة السياسية للسلطة الفلسطينية مع إسرائيل التي أدت إلى تفاقم الوضع المالي في غزة – حيث يبلغ معدل البطالة 70٪. لا يزال موظفو الخدمة المدنية يعانون من تخفيض الرواتب وتأخر المدفوعات. علاوة على ذلك، خلقت أزمة كوفيد -19 فوضى في سوق العمل، خصوصاً في القطاع الزراعي. وانخفضت الوظائف في قطاعَي الزراعة وصيد الأسماك بنسبة 12 في المئة من الربع الأول إلى الربع الثاني من العام 2020. وتركت العمالة غير الرسمية المُنتشرة العديد من سكان غزة بدون حماية اجتماعية خلال جميع الأزمات. ومن المتوقع أيضاً أن تنخفض تحويلات الجهات المانحة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة من المصادر الرسمية والخاصة إلى أدنى مستوى لها منذ عقد – الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم هذا الوضع السياسي والاقتصادي الصعب في غزة.

لقد أضعف الحصار والوباء المؤسسات الفلسطينية. على الرغم من الجهود المبذولة لتشغيل هذه المؤسسات بموظفين وساعات عمل مُخَفَّضة، فإن الغالبية تكافح من نقص البنية التحتية التكنولوجية والمرافق غير الملائمة لإرشادات أمان كوفيد-19. تواجه الحكومة قراراً خطيراً: إعطاء الأولوية للأزمة الاجتماعية والاقتصادية أو للأزمة الصحية. نظراً إلى أن 74.5 في المئة من سكان غزة هم من اللاجئين ويعيش معظمهم في منازل صغيرة ومُكتظّة، فإنهم سيكافحون حتماً للتغلب على آثار الفيروس بسبب قيودهم البيئية. إن هذه اللحظة تُنذر بحدوث انخفاضٍ في معرفة القراءة والكتابة، وزيادة عدم المساواة، وتزايد مشاكل الصحة العقلية، والعنف الأسري – وكلها تؤثر بشدة في المُعاقين والشباب في غزة.

إن توليد استجابة عالمية لدعم الصحة في القطاع أمرٌ صعب بالنظر إلى تسييس حق الفلسطينيين في الرعاية الصحية. يبدو أن التأخير في الاستجابة لحالة طوارئ كوفيد-19 في غزة هو قرار اتخذته إسرائيل لإضعاف حكومة “حماس”، لا سيما أنها تستعد للانتخابات الفلسطينية المقبلة. إن تأخير المساعدات يؤدّي إلى تعريض حياة مليوني شخص في غزة للخطر؛ وهو إنتهاكٌ خطير لحقوق الإنسان العالمية الذي من شأنه أن يُعرض للخطر إمكانية إحلال السلام لعقود. إن إعطاء الأولوية للصحّة على السياسة هو السبيل للمضي قُدماً لإحداثِ تغييرٍ إيجابي على أرض الواقع. وكلما طال الوقت للقيام بذلك، كان التأثير أكثر ضرراً على غزة.

  • الدكتورة منى جبريل هي زميلة في مركز أبحاث الأعمال في جامعة كامبريدج. وهي عالمة اجتماع مُتعدّدة الإختصاصات تُركز على غزة والمناطق المتضررة من النزاعات. يمكن متابعتها عبر تويتر على:@ Mona_Jebril.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى