الديبلوماسية الصلبة لقوّة البابا الأخلاقية

قد تبدو ديبلوماسية البابا فرنسيس في الشرق الأوسط سطحية، لكن يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ عملي كبير أكثر من أي ديبلوماسية لأي دولة عُظمى.

البابا يوحنا بولس الثاني مع البطريرك نصرالله بطرس صفير: عندما زار لبنان في العام 1997

بقلم ستيفن أ. كوك*

من خلال أكثر المقاييس سطحيةً لديبلوماسية الفاتيكان، كانت زيارة البابا فرنسيس الأخيرة للعراق بمثابة نجاحٍ باهر. لقد دعم ما تبقّى من السكان المسيحيين في البلاد ودفع جهوده لتوحيد الأديان الإبراهيمية من خلال لقاء مع آية الله العظمى علي السيستاني وكذلك إلقاء خطاب في “أور” – موقع ولادة النبي إبراهيم. أعادت الرحلة العراق إلى عناوين الأخبار لشيءٍ آخر غير تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو الهجمات الصاروخية على السفارة الأميركية، أو إيران، أو اللاجئين، أو مجموعة من المشاكل الأخرى التي هزّت البلاد منذ الغزو الأميركي في العام 2003. ولم يكن هناك شكٌ بأن البابا بدا وكأنه يستعيد قوّته؛ ومثل أي شخص آخر، بدا أنه سعيدٌ جداً بالخروج من منزله لأول مرة منذ عام.

الجدل الوحيد جاء في الإجتماع في “أور”، حيث لم يكن هناك ممثلون يهود – إما بسبب قلّة عددهم، وبالتالي من الصعب العثور عليهم، أو لم يقم المسؤولون العراقيون بدعوتهم. ومع ذلك، كانت زيارة البابا إلى بلاد الرافدين غارقة في الرمزية الإيجابية ومؤثّرة بشكل لا يُمكن إنكاره.

السؤال هو ماذا بعد الزيارة؟ البابا -كلمة مُشتَقّة من اللاتينية ل”بناء الجسور”- عاد الآن إلى روما، وبمرور الوقت، ستختفي المُلصَقات والجداريات التي رحّبت بفرانسيس. ولكن مشاكل العراق ستبقى. لهذا السبب يميل المُحلّلون إلى التعامل مع هذه الأنواع من الزيارات على أنها عروضٌ جانبية. إنها لطيفة في الوقت الحالي، لكن هذا يتعلّق بها. بالتأكيد، في زيارة سابقة إلى الشرق الأوسط، (إلى الإمارات)، وقّع البابا فرنسيس وإمام الأزهر الشيخ أحمد الطيب ما أُطلق عليه “وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش معاً”، لكن لم يكن هناك الكثير من الأخوّة والسلام في الشرق الأوسط على مدى العامين منذ ذلك الحين.

ومع ذلك، هناك أسبابٌ للإعتقاد بأن اهتمام الفاتيكان المُستمر بالشرق الأوسط سيؤدي إلى بعض الفوائد الديبلوماسية العملية هناك.

لدى وصوله إلى العراق في الخامس من آذار (مارس)، ألقى البابا خطاباً قال فيه: “كم صلّينا في هذه السنوات من أجل السلام في العراق! لم يدّخر القديس يوحنا بولس الثاني أي مبادرات، وقبل كل شيء قدّم صلواته وآلامه من أجل هذه النية وهذا الهدف”. كانت الإشارة إلى القديس يوحنا بولس الثاني في نهاية الخطاب جديرة بالملاحظة. فالقديس يوحنا بولس الثاني، بالطبع، البابا يوحنا بولس الثاني، الذي قاد كاثوليك العالم من العام 1978 حتى وفاته في العام 2005، كان يريد زيارة العراق في العام 2000، لكن الفاتيكان لم يتمكّن من التوصّل إلى اتفاقٍ مع الحكومة العراقية. ربما كان صدام حسين ومستشاروه يُشكّكون في البابا يوحنا بولس. أنا على استعداد للمراهنة على أن نائب رئيس الوزراء العراقي في ذلك الوقت، طارق عزيز -كاثوليكي كلداني- كان على دراية بالدور الاستثنائي الذي لعبه البابا في قضايا السياسة الخارجية الكبرى في عصره.

كان البابا يوحنا بولس الثاني قوّة أخلاقية حاسمة شجّعت حركة التضامن البولندية لمواجهة الحكومة الشيوعية، ما ساعد على تحفيز نهاية الحرب الباردة. كما دعم إعادة توحيد أوروبا، وعمل بجهدٍ كبير لمواجهة الفصل العنصري، وعارض كل من عملية “عاصفة الصحراء” والغزو الأميركي للعراق. بشكلٍ عام، تحدّث البابا يوحنا بولس عن حرية التعبير وحقوق الإنسان بطرق أعطت أولئك الذين عملوا لتحقيق هذه الأهداف غطاءً سياسياً وأخلاقياً لمتابعة أجنداتهم. عندما استسلم لمضاعفات الإنفلونزا بعد 27 عاماً على بقائه في منصبه، حزن الناس من جميع الأديان على وفاته.

وحمل الشعلة البابا فرانسيس الذي، بطريقته الخاصة، تبع البابا يوحنا بولس بإعطاء صوته الفريد للشرق الأوسط. إن المنطقة مليئة بالمعاناة، وقادتها -وكذلك قادة القوى الخارجية- غير قادرين أو غير راغبين أو متواطئين في الصراعات التي قتلت وجرحت وشرّدت الكثير من الناس. يبدو أن هناك دوراً يلعبه البابا فرانسيس في إيجاد طريقٍ للمضي قُدُماً في المنطقة، وليس بالضرورة تحديد وتعزيز الأساس الديني للسلام أو في بعض المبادرات الديبلوماسية بقيادة الفاتيكان، على الرغم من أنه قد يكون هناك مجال لذلك. يبدو أن سلطة البابا قد تكون أنه لا يحتاج إلى “إنجازات”، كما يقولون في واشنطن. بدلاً من ذلك، يكمن تأثير البابا فرانسيس في قوّة صوته لتشجيع التغيير، وإلهام أولئك الذين يسعون إلى السلام بشجاعة، وإحراج أولئك الذين يستخدمون العنف لدفع أجنداتهم.

في بعض النواحي، يقوم البابا بهذا أصلاً فقط من خلال كونه البابا وظهوره. ولكن إذا كانت قوة فرانسيس مستمدة من التقدير الذي يحظى به من جمهوره، فإن الترحيب الحار الحقيقي الذي تلقّاه في جميع أنحاء العراق يُشير إلى أن لديه فرصة قوية بشكل خاص لإحداث فرقٍ ديبلوماسي في الشرق الأوسط.

لا ينبغي لأحدٍ أن يتوقّع من البابا أن يحلّ مشاكل المنطقة، ولكن إذا تحدّث بقوة حول قضايا مُحدّدة، فقد يكون قادراً على إحداث فرقٍ في كلٍّ من الطرق الصغيرة والكبيرة. خذ على سبيل المثال لبنان، وهو بلد فيه عدد كبير من السكان المسيحيين وهو على وشك الإنهيار. إذا خاطب البابا فرانسيس الشعب اللبناني بشأن قضية الفساد، فقد يساعد ذلك أولئك الذين كانوا يحتجون في الشوارع وفي أماكن أخرى ويعملون على تخفيف قبضة الطبقة السياسية المعروفة بجبنها وفسادها. مرة أخرى، إن هيبة البابا والقوة الأخلاقية اللتين يجلبهما لأي قضية هما ما هو مُهم والأهم. من خلال التحدّث نيابةً عن أولئك الذين يريدون العيش في مجتمع أكثر عدلاً من خلال استئصال الفساد، يمنحهم البابا فرانسيس القوّة والشجاعة. قد تكون سوريا أيضاً مكاناً يمكن أن يفعل فيه البابا فرانسيس بعض الخير. إذا تحدّث بقوة عن الطريقة التي استهدف بها النظام وداعموه في موسكو وطهران المستشفيات وقصف المدنيين عشوائياً، فربما يجبر قادتها على التفكير مرتين بالنسبة إلى هذه التكتيكات.

ربما أنا ساذجٌ. سيستمر السياسيون الفاسدون في التذمّر، وبشار الأسد بعيدٌ من كل خلاص، لكن يبدو أن السلطة الأخلاقية للبابا –كما أوضحت تجربة البابا يوحنا بولس– يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ ديناميكي في السياسة والديبلوماسية والبيئة الدولية. تخيّل لو تحدّث البابا فرانسيس بشكل مباشر وقوي ومستمر عن معاملة أنقرة للسياسيين الأكراد في تركيا وانتهاكات حقوق الإنسان في مصر. يُمكن أن توفّر كلماته معالجة للإنفتاح السياسي والديبلوماسي في الأماكن التي لم يكن موجوداً فيها من قبل، وذلك فقط لأن المسؤولين الأتراك والمصريين يعرفون بأن نظرة البابا مُنصَبّة عليهم. إن زعماء هذه الدول وقحون وقساة، لكن من الصعب تحدّي البابا.

بالطبع، هناك الكثير من الأسباب التي تجعل البابا فرانسيس لا يفعل أكثر بكثير مما فعله أصلاً في الشرق الأوسط. بعد كل شيء، هناك الكثير من المعاناة في العالم التي تتطلب انتباهه؛ وقد لا تنتج عن استثمار هيبته، وهي عملته الوحيدة، عائدات؛ كما أن الفاتيكان يخاف من أن يواجه خطر الانجرار إلى السياسة الإقليمية. ومع ذلك، خلال رحلته إلى العراق، بدا أن الناس من جميع الأديان يستمدون الإلهام من كلمات البابا فرانسيس واهتمامه. إنه محاورٌ لديه قدرٌ أقل بكثير من الأمتعة والعيوب وثقلٌ أكبر بكثير من أي مسؤول أميركي أو روسي أو صيني أو أوروبي أو مسؤول في الأمم المتحدة. لقد فشلوا جميعاً، ربما البابا لن يفشل.

  • ستيفن أ. كوك هو كبير زملاء “إيني إنريكو ماتي” لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في “مجلس العلاقات الخارجية” (Council on Foreign Relations). أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان “الفجر الكاذب: الإحتجاج والديموقراطية والعنف في الشرق الأوسط الجديد”. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @stevenacook
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى