هل يستطيع بايدن إعادة زعامة أميركا الدولية؟

تواجه الولايات المتحدة الأميركية تحديات عالمية عدة، منها الإقتصادي ومنها العسكري. فهل تستطيع إدارة جو بايدن الجديدة معالجة هذه القضايا وإعادة أميركا إلى دورها الإستثنائي السابق؟   

الجيش الأميركي: ما زال الأقوى في العالم ، ولكن هل هذا يكفي لإعادة زعامة أميركا الدولية؟

بقلم السفير يوسف صدَقة*

بعدما نالت الولايات المتحدة الاستقلال عن بريطانيا في الرابع من تموز (يوليو) 1776، عمدت إلى تنظيم البنية التحتية وإدارة الموارد الزراعية، والثروة المعدنية، والالتحاق بالركب الصناعي الأوروبي. وقد وجدت نفسها في بداية القرن العشرين أقوى قوة اقتصادية في العالم، من دون وجود أي تهديد للأمن القومي الأميركي، سواء في القارة الأميركية، أو خارجها.

فالدول العظمى تبني سياستها الخارجية، مرتكزةً على التجارب التاريخية وعلى حتمية الجغرافيا والثقافة والقِيَم المُتوارَثة. فالنخبة الصينية اليوم تستلهم تاريخ وعظمة الصين وحضارتها قبل القرن العشرين، الذي يُمثل قرناً طُبِعَ بالإذلال الوطني للشعب الصيني، أما الروس فيستلهمون العظمة، والساحة الحمراء والهيمنة السوفياتية، بدءاً من دول أوروبا الشرقية إلى “فلاديفوستوك” (Vladivostok).

فالدول العظمى، تعمل على تنفيذ مصالحها القومية، بالإستناد إلى قدرتها العسكرية ومواردها المالية والإقتصادية. فقد حفل تاريخ الأمم الكبرى، والمتوسطة بقيادات سياسية أدّت طموحاتها وجنون العظمة، إلى تدميرها مثل ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية…

وتكمن التحديات التي تواجه الدول العظمى في تحقيق الطموحات الإقليمية والدولية، مع محدودية الإمكانات المتوافرة. أما تاريخ الولايات المتحدة، فقد شهد ظاهرة فريدة في النصف الأول من القرن العشرين. فكانت لها عناصر القوة البشرية والصناعية والعسكرية  التي جعلتها قوة عالمية، والتي تتجاوز النظرة الجيوستراتيجية لأميركا، ومقاربتها للدور على الصعيد الدولي، حتى في ظل النازية والإمبريالية اليابانية التوسعية، وتعاظم قدرة الاتحاد السوفياتي، والحركات الراديكالية الإسلامية.

يتمسّك عدد من النخبة الأميركية والذين يُعبّرون عن شريحةٍ كبيرة من الرأي العام الأميركي، على الرغم من عصر الإنترنت وفي ظلّ العولمة الاقتصادية والصواريخ العابرة للقارات، بمبدأ مونرو، الذي أعلنه الرئيس الأميركي جايمس مونرو في العام 1832، والذي يقوم على التمتع بالعيش في قارة منعزلة، بعيدة من النزاعات الدولية. ولكنّ التاريخ بيّن أنّ هذه العزلة، تنطلق من النفق، عند الحالات الطارئة، وذلك في إمكانية التدخل العسكري، في الأماكن البعيدة من القارة، لمواجهة ظروفٍ استثنائية، فرضتها تطورات الحرب العالمية الأولى والثانية. وينظر بعض المفكرين الأميركيين أنهم ليسوا مسؤولين عن نظامٍ عالمي جديد، ولكنهم يوافقون على لعب دور في العلاقات الدولية لا يمكن تجاوزه.

فالأميركيون يفضلون وفق رؤيتهم للتاريخ، العودة إلى مفاهيم دولتهم الفتية وطموحاتها المحدودة. حيث أقصى ما كانت تطمح إليه أميركا في الماضي، هو الحفاظ على الكيان إزاء الملكيات الأوروبية إلّا أنّ الطموحات الألمانية وتهديد قلب أوروبا جعلت الولايات المتحدة في قلب الحدث. لأنّ تهديدات ألمانيا، أخلّت بالتوازن الهشّ في أميركا. وبالمقابل، فإنّ النظرة التوسعية للإمبراطورية اليابانية، حدّت من قوة بريطانيا العظمى، ممّا حمل أميركا على التصدي للنفوذ الياباني في المحيط الهادئ. فالموقع الجيوستراتيجي لأميركا والتحوّلات الدولية جعلت أميركا قوة جبارة في الباسيفيك والمحيط الأطلسي، إزاء التحديات. وقد خرجت أميركا من القارة بأكبر ترسانة عسكرية لأمنها القومي ولحلفائها. إنّ الثروة والقوة العسكرية جعلت أميركا وحدها، قادرة على خوض الحروب، ودعم السلم في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. وقد حتّمت الظروف الدولية والالتزامات إزاء الحلفاء على أميركا أن تحارب بعد الحرب العالمية الثانية في مناطق بعيدة من حدودها بآلاف الأميال.

بعد الحرب العالمية الثانية، ظهر التحدّي الشيوعي بقيادة الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، الذي حاول السيطرة على أوروبا. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى تشكيل حلف شمال الأطلسي أو “الناتو” لحماية أوروبا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية. وقد اعتبرت واشنطن أنّ مواجهة الشيوعية هي من أولويات الأمن القومي الأميركي. وهذا ما دفعها إلى طيّ صفحة مبادئ عدم التدخل لـمبدأ مونرو.

في أفغانستان، العراق والبلقان

يبدو للمراقبين أنّ التدخل الأميركي في العقود الأخيرة، تميّز بالتذبذب بدون قاعدة ورؤية سياسية، تتآلف مع الأمن القومي الأميركي. وقد فشلت الرؤية الأميركية للحروب السريعة مثل العراق وأفغانستان، وهي حروب، أدّت إلى الفوضى وعدم الاستقرار من دون رؤية أو أفق واضح للعمل.

فعندما اجتاح الرئيس العراقي صدام حسين الكويت في آب (أغسطس) 1990، تحدث الرئيس جورج بوش الإبن أثناء الحرب عن نظامٍ عالمي جديد. فيما برر وزير الخارجية آنذاك، جيمس بيكر، الحرب بأنها ستجلب ملايين فرص العمل للأميركيين. أما الحرب في البلقان فقد قادتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس بيل كلينتون في حزيران (يونيو) 1990 تحت ذريعة وقف الحرب في كوسوفو، ونزع شرعية الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش، وهي حرب خالفت القانون الدولي قام بها “الناتو” من دون تفويض من مجلس الأمن، وفق الفصل السابع، وهي حرب أتت مخالفة للقانون الدولي الإنساني. والسؤال الذي يطرح إذا عدنا إلى أدبيات الأمن القومي الأميركي، ما هي المصلحة الأميركية في حرب يوغوسلافيا، طالما لا تُهدّد الأمن القومي الأميركي والأمن الأوروبي وحلف الناتو؟

أما بعد أحداث 9/11/2001 الأليمة وسقوط برج التجارة العالمي فحدث انقلابٌ في السياسة الخارجية الأميركية في عهد بوش الابن فتحوّلت إلى سياسة هجومية في انقلاب على مبادئ السياسة الخارجية الأميركية. فقد تمّ غزو العراق تحت ذريعة وجود برنامج أسلحة نووية أو جرثومية، حيث قدّم وزير الخارجية الأميركي كولن باول في مجلس الأمن صوراً عن معامل أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة في إطار بروباغندا التهويل والإشاعة، بهدف تأليب الرأي العام العالمي ضدّ النظام العراقي.

التحدّي الصيني

تواجه الولايات المتحدة تحدياً صينياً على الصعيد الاقتصادي، فالاقتصاد الصيني الصاعد والنمو السريع الذي يعرفه، يمثل قلقاً لواشنطن، وكذلك نمو القوة العسكرية الصينية في بحر الصين، وفي مجال الأسلحة التقليدية من طيران وصواريخ عابرة للقارات. لكنّ الصين، رغم طموحها في إعادة أمجاد الماضي، تُركز على التدخل في دول العالم الثالث عبر المساعدات الاقتصادية، وعبر منظومة خط الحرير. وهي تسير بخطوات واثقة وبطيئة، لئلاّ تُثير هواجس الولايات المتحدة. ويبدو أنّ الطموح الصيني في العشرية المقبلة هو السيطرة في محيطها الإقليمي الآسيوي. فالسياسة الصينية تقوم على خلق الوعي القومي لدى الصينيين، وتعزيز القدرة الوطنية للحفاظ على السيادة الإقليمية واستعادة تايوان. ورُغم الطموحات الصينية في المحيط الإقليمي، إلاّ أنّ بكين تبقى حذرة في تعاملها مع واشنطن. ولكن يبقى لها العين الساهرة في دول شرقي آسيا، من ميانمار، كوريا الشمالية، ماليزيا، فيتنام، لاوس…

والتحدي اليوم هو المواءمة مع المصالح الأميركية والطموحات الصينية، عبر تسوية مريحة بين الفريقين. فالتحدي أمام الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، هو إيجاد تسوية ملائمة، تؤمّن الاستقرار في منطقة آسيا، لأنّ استمرار الصراع يهدد التجارة العالمية ومصالح الفريقين.

الريادة الأميركية مع نظام مُتعدّد الأقطاب

رُغم تراجع أداء الاقتصاد الأميركي، والذي فاقمته جائحة كورونا، تبقى الولايات المتحدة قائدة العالم الليبرالي، لا شك أن هناك حنيناً يساور بعض المفكرين في العودة إلى أميركا أوّلاً. فلا يمكن للأميركيين أن يتنصّلوا من واجباتهم المستجدة بعد الحرب العالمية الثانية، لأنّ حماية الأمن القومي الأميركي تتطلب الوجود في أماكن عدة في العالم، لحماية المصالح الوطنية الأميركية من جهة والحفاظ على التوازن والإستقرار في النظام العالمي.

وعليه، ما زالت الولايات المتحدة أقوى قوة عسكرية في العالم، حيث تبلغ موازنة وزارة الدفاع وحدها 716 مليار دولار عدا موازنات وكالات إستخباراتها ال17 التي تبقى سرية، ويبلغ عدد الملتحقين بالقوات المسلحة حوالي 2,200,000، بينهم 200,000 جندي في القواعد العسكرية للناتو وفي مناطق عدة في آسيا وإفريقيا، و800,000 من جنود الإحتياط.

يستدلّ من مراجعة مرحلة دونالد ترامب أنّ التحديات التي سيواجهها الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن تتمثل في إعادة أميركا إلى الحوار والتعاون الدولي بعدما شهدت مرحلة الرئيس السابق، المواجهات الحادة مع الحلفاء الأوروبيين والأمم المتحدة والمنظمات الدولية. فلا يمكن للولايات المتحدة بعد اليوم أن تنفرد بالنظام العالمي وأن تتجاوز الأمم المتحدة.

في ظلّ نظامٍ عالمي، مُتعدّد الأقطاب، تتقاسم الصين وروسيا والإتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة النفوذ في العالم رُغم أرجحية واشنطن في الميدان الجيوستراتيجي. ولا يمكن أن تستقر الريادة، بدون اقتصاد صلب، قادر على منافسة النمو الاقتصادي المتصاعد للصين. فتنامي الصراع الاقتصادي والتجاري سيؤدي إلى خلخلة النظام الدولي. والعالم يعوّل على حكمة وخبرة بايدن في العلاقات الدولية من أجل تدوير زوايا الاختلاف مع بكين وموسكو من أجل نظامٍ دولي متوازن.

  • السفير يوسف صدَقة ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى