إسرائيل: طُبُولُ حَربٍ ضدّ “وحدةِ الجبهات”

محمّد قوّاص*

لا شيءَ عاجلًا ومُباغتًا يُبرّرُ هذا الذُعرَ الذي تُعبّرُ عنه القيادات الإسرائيلية في التهويل بقربِ حدوثِ صدامٍ كبيرٍ مع إيران وبحربٍ استباقيةٍ يتوعّدُ بها قائد الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي. تمدّدَ هذا الذُعرُ صوبَ مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي الإسرائيلي الذي انعقد في 22-23 أيار (مايو) الماضي، وأفرجَ عن كثيرٍ من الرؤى المتوتّرة في استراتيجيات الأمن والردع والدفاع. وقد لا يكون دقيقًا أن “الردعَ” الذي يمارسه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحلفاؤه يعود فقط إلى مناوراتٍ داخلية تتعلّقُ بأزمةِ الحكومة وبقائها وسيناريوات استبدالها.

من صَلبِ المواقفِ التي صَدَرَت عن قادةٍ في الجيش والأمن والسياسة تتصاعدُ المخاوفُ من مُستَجِدَّين:

الأول، التسليمُ بامتلاكِ إيران نهائيًا لتقنيةِ تصنيع قنبلة نووية في الزمان الذي تريده، لا سيما وأن فشلَ مفاوضاتِ فيينا يُمكّنُ الجمهورية الإسلامية من التصرّفِ من دونِ ضوابط في تطوير برنامجها النووي. ويزيدُ من مستوى هذه المخاوف إعلانُ طهران رسميًا أنها تقوم بتخصيب اليورانيوم بنسبة 65 في المئة، واكتشاف مُفتشّي الوكالة الدولية للطاقة الذرية في شباط (فبراير) الماضي عيّناتٍ تُثبت تخصيبًا بنسبة 84 في المئة، مع العلم أن تصنيعَ قنبلةٍ نووية يحتاج إلى نسبة 90 في المئة، وهي نسبة تستطيع إيران الوصول إليها، وتحتاجُ فقط إلى قرارٍ سياسي وفق ما يحذّر منه رئيس شعبة المخابرات في الجيش الإسرائيلي، اللواء أهارون حليوة.

الثاني، حقيقةُ أنَّ أذرُعَ وحلفاء إيران في المنطقة باتوا يُشكّلون خطرًا حقيقيًا واستراتيجيًا يتجاوز قدرات إسرائيل السابقة في التعامل مع “العصابات” وجماعات “المخرّبين والإرهابيين”. ويعترف قادة إسرائيل أن “وحدةَ الجبهات” التي يُهدّدُ بها “حزب الله” في لبنان وكلٌّ من حركتي حماس والجهاد في غزة، تشمل أيضًا نيرانًا محتملة من داخل سوريا والعراق ومناطق أخرى ستنطلق من دون شك في حال تعرّضت إيران إلى حربٍ وجودية، أو حتى إلى ضرباتٍ كبرى تشنّها إسرائيل.

ربما في الأمرِ مُبالغة وتهويل. ومع تأكيد وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت على جهوزية إسرائيل عسكريًا لتلك “الحرب المتعدّدة المعقّدة”، غير أنه لا يرى ردَّ أخطارِ إيران على إسرائيل والعالم إلّا “من خلال حلفٍ إقليمي دولي”. وهنا مكمن المعضلة.

يقلق استراتيجيو إسرائيل من تغيّر المزاج الدولي، خصوصًا في الولايات المتحدة التي أطلقت مجموعة من التحفّظات والإدانات لمواقف وسلوكيات صدرت عن حكومة إسرائيل الحالية، التي توصف بأنها أكثر الحكومات يمينية وعنصرية في تاريخ الدولة العبرية. كما إنَّ واشنطن، التي تُكرّرُ دومًا دعمها لأمن إسرائيل وحقّها في الدفاع عن نفسها بما في ذلك توجيه ضربات وقائية، ما زالت غير موافقة على دعم أو تغطية أي خططٍّ عسكرية إسرائيلية مُنفردة ضد إيران طالما لم تمت المفاوضات النووية في فيينا.

ترتفعُ هواجس إسرائيل الأمنية أيضًا في ظلِّ تراجعِ ما حققته إسرائيل في المنطقة من خلال الاتفاقات الإبراهيمية التي أبرمتها مع كلٍّ من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. يأتي الإنذار هذه المرة إماراتيًا.

نقلت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن رئيسة مركز الإمارات للسياسات الدكتورة ابتسام الكتبي قولها أمام مؤتمر هرتسيليا إن حكومة نتنياهو “أحرجت” القادة العرب الذين وقّعوا تلك الاتفاقيات، وإنه من المستبعد أن تُقدِمَ دولٌ عربية أخرى على الخطوة نفسها في المستقبل القريب. تستنتجُ إسرائيل ذلك أيضًا وتضعف آمالها بتطبيع العلاقات مع السعودية.

صدرت عن الرياض مواقفٌ متلاحقة وبمستوياتٍ مختلفة وبجرعاتٍ إضافية تؤكد الدعم التام للحقوق الفلسطينية وإقامة دولة مستقلة على حدود الرابع من حزيران (يونيو) والتمسّك بمبادرة السلام التي صدرت عن القمّة العربية في بيروت في العام 2002.

والمبادرة في الأصل سعودية اقترحها العاهل الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز، وقضت بتأسيس دولتين وعودة الفلسطينيين إلى أراضيهم، وأن تكون القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية، مقابل اعتراف الدول العربية بإسرائيل. ولطالما ردّد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أن “الاتفاقَ على إقامة دولة فلسطينية سيكون شرطًا مُسبقًا لإقامة علاقات ديبلوماسية رسمية مع إسرائيل”.

وعلى الرُغمِ من تأكيد الولايات المتحدة، وعلى لسان الرئيس جو بايدن، العزم على بذل أقصى الجهود لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، إلّا أنَّ واشنطن استنتجت من خلال موفديها خلال الأسابيع الأخيرة، ابتداءً من السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام مروراً بمدير وكالة المخابرات المركزية (CIA) وليام بيرنز، انتهاءً بمستشار الأمن القومي جايك سوليفان، أنَّ موضوع َالتطبيع ليس على أجندة الرياض، وأنَّ خططها الراهنة لا تشملُ هذا الاحتمال وإن أبدت مرونةً في مسألةِ فتح مجالها الجوي أمامَ الطائرات المدنية الإسرائيلية، وتدرس السماح بتسيير رحلاتٍ للحجِّ من إسرائيل.

لا يُقلقُ إسرائيل في المدى القصير تراجُعَ زخم “التطبيع” وإن كان يشكّلُ ضربةً لآمالٍ سابقة بتوسيع ما تحقّق وبطموحاتٍ لمدِّ العلاقات الديبلوماسية صوب دولٍ عربية أخرى. غير أنَّ قلقًا حقيقيًا ينتابُ مؤسّسات الفكر كما مؤسسات الأمن الاستراتيجي منذ التوقيع على الاتفاق السعودي- الإيراني في 10 آذار (مارس) الماضي. ولئن أمِنَت الرياض وطهران لرعاية الصين لهذا الاتفاق، فإن الأمرَ بدا وكأنه أيضًا ضربة وجّهتها دولة كبرى مثل الصين التي تتمتّعُ إسرائيل معها بعلاقاتٍ متقدّمة وحميمة في مجالات الاقتصاد والأمن والتكنولوجيا إلى درجة تدخّل الولايات المتحدة لدى تل أبيب نفسها لوضع حدود لمستويات التعاون بين البلدين.

وتُراقبُ إسرائيل عملية تأهيل إيران لدى العالم العربي كما قرار الجامعة العربية إعادة سوريا، وهي الحليف القديم لإيران، إلى مقعدها داخل الجامعة، وصولًا إلى مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في القمّة العربية الأخيرة في جدّة (19 أيار /مايو). وتراقبُ أيضًا ما صدر عن هذه القمة، برئاسة السعودية بالذات، من قراراتٍ تتعلّقُ بدعم القضية الفلسطينية والدفاع عن مشروع الحلّ الذي اقترحته قمّة بيروت وفق القرارات الدولية.

وبغضّ النظر عن التحوّلاتِ السياسية في المنطقة، فإن إسرائيل تُعَوِّمُ من جديد الحلّ العسكري لردّ الخطر الإيراني وتسعى، من خلال ما تقدمه من معلومات لدى واشنطن لاستدراج رعايتها لخياراتها المحتملة. وجاءت المناورة العسكرية التي قام بها “حزب الله” (22 أيار / مايو) في بلدة عرمتى الجنوبية في لبنان لتحمل كثيرًا من الماء إلى طاحونة المُهَوِّلين من “الأخطار التي تُهدّدُ وجودَ إسرائيل” والنهل من الحدث للتدليل على أنَّ الهواجسَ من خطرٍ إيراني هي هواجسٌ واقعية لا مُبالَغة بها، وأنَّ أخطارَ “وحدة الجبهات” ليست أوهامًا.

وفيما تقرع طبول الحرب الكبرى هذه، يخرجُ الناطق باسم جيش الاحتلال ليقول إن التهديدات التي أطلقها قادةٌ ومسؤولون عسكريون إسرائيليون ضد إيران و”حزب الله” “لا تعني أنَّ الجيشَ بصددِ شنِّ حربٍ على لبنان أو ضرب المنشآت النووية الإيرانية”. ولكن زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى أذربيجان في 29 أيار (مايو) وهو البلد الذي يطلُّ على إيران بحدودٍ تبلغُ 765 كلم تُلمّحُ إلى وحدةِ جبهاتٍ مُحتَمَلة بالمقابل.

على ذلك تبدو الحرب بعيدة، لكنها من الاحتمالات الواردة التي تحتاج استعدادًا داخليًا وتسويقًا خارجيًا. غيرَ أنَّ التلويحَ بها والتهويلَ بقربها قد يهدفان أيضًا إلى إحداثِ صدمةٍ داخلية لتحالفاتٍ حكومية جديدة تُخلّصُ نتنياهو من تحالفه مع المتطرّفيْن إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهو تحالفٌ تكرهه إدارة بايدن في واشنطن التي يُحرجها شَطَطَ تل أبيب إلى درجةٍ عبّر عنها الكاتب الأميركي، توماس فريدمان، بالتحسّر، في مقاله في “النيويورك تايمز” (4 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي)، على ما أسماها “إسرائيل كما نعرفها”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى