ماكرون في المغرب… الرهاناتُ الجديدة

محمّد قوّاص*

تَرَدَّدَت فرنسا كثيرًا في السعيّ للاهتداء إلى معادلةٍ تُتيحُ لباريس أن تَربحَ على كافةِ الجبهات في شمال أفريقيا. شيءٌ من التذاكي شابَ السياسة الخارجية الفرنسية حيالَ الرباط بما راكَمَ حلقاتٍ من التوتّرِ وسوءِ الفهم والأزمات، وصلَ إلى ما يشبه القطيعة بين البلدين. كان من حقّ الإيليزيه أن يُغامِرَ في تدشينِ مُقاربةٍ خلّاقة مع الجزائر تُعالِجُ علاقةً مُعقّدة. لكنَّ الخفّةَ تكمُنُ في عدمِ إدراكِ أنَّ التوجُّهَ نحو الجزائر لا يجب أن يعني التسلُّلَ من وراءِ ظَهرِ المغرب.
حين ذهب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بعيدًا في محاولاتِ إصلاحِ ذاتِ البَينِ مع الجزائر، خرج الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، مُحَذِّرًا من النيلِ من علاقاتِ فرنسا مع المغرب. ومَن يَعرِفُ كيفَ تُصاغُ “سياسة فرنسا العربية”، منذ الجنرال شارل ديغول، يَعي تمامًا، كما حالُ مُخضرمٍ مُتَمَكِّنٍ مثل ساركوزي، أنَّ باريس ترتكبُ آثامًا لا نليقُ بأبجديات الديبلوماسية. والأمرُ لا يتعّلقُ بالنسبة إلى المغرب في سعيّ فرنسا إلى تطويرِ علاقاتها مع الجزائر، فذلك من حقِّ البلدين وأبجديات الديبلوماسية، بل في تخلّفِ باريس عن استنتاجِ التحوّلات في الرباط كما في العالم بشأن المغرب.
تراكَمَت الزلّات في شؤون الهجرة والأمن والملفّات الثُنائية. لكن باريس تأخّرت في الاستفاقة على أهمّية الصحراء في ألف-باء السيادة لدى المغرب والمغاربة. راكَمَت الديبلوماسية المغربية الإنجاز تلوَ الآخر في الدفاع عن مغربية الصحراء وجعلها في صدارةِ الأهداف الجيوستراتيجية للبلاد. تتعدّدُ مشاربُ السياسة في المملكة بين يسارٍ ويمينٍ ووسط، وبين موالاةٍ ومُعارَضة. تتنافس جميعها وتتجادل في ما هو مُتَحَوِّل، لكنها جميعها تلتقي عندَ ثابتٍ واحد: الصحراء مغربية.
أرادَ ماكرون أن يربحَ الجزائر والمغرب معًا، فكاد أن يخسرَ الإثنين معًا. يُمكنُ القولُ أنَّ القفزةَ التي أرادها تاريخية نحو الجزائر قد فشلت، وأنَّ رحلته وزَحفَ حكومته من بعده باتجاه الجزائر مَفاصِل لم تنجح في بناءِ مرحلةٍ جديدة تطوي صفحةَ ذاكرةِ الاستعمار للانتقالِ إلى كتابةِ سرديةٍ مُحَدَّثة لعلاقةِ البلدين. بدا أنَّ باريس استنتجت عقمَ تجاربها الجزائرية، فأدارت الظهر بارتباك وراحت تدقُّ أبوابَ الرباط.
في آب (أغسطس) من العام 2022، وضع العاهل المغربي، الملك محمد السادس، نقاطًا واضحةً على الحروف لإبلاغِ دولِ العالم بمفتاحِ أيِّ علاقةٍ مع بلاده. المُعادَلةُ بسيطة مباشرة: “ملف الصحراء هو النظّارة التي ينظرُ بها المغرب إلى العالم، وهو المعيارُ الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”.
كانت الرباط اقترحت قيامَ حُكمٍ ذاتيٍّ في الصحراء رافضةً أيّ مشاريع انفصال أو تفتيت أو تقسيم لقطعةٍ من أراضي البلاد. عاندت الرباط مَن عاندها رافضةً أن تدعَمَ الجزائر “قضيةً” هي من صلبِ الشؤون المغربية. تَغَيّرَ العالم وتبدّلت نظرته إلى المسألة وباتت الدول واحدة تلوَ أخرى تؤيّدُ خطّة المغرب للتسوية وراحَ كثيرها وفي مقدمهم، الولايات المتحدة، يعترف بسيادة المغرب الكاملة على صحرائه. تأمّلت فرنسا هذا المسار المُتَحَوِّل ببلادة، ووقفت تُراقِبُ مشلولةً القطارَ العالمي يسيرُ بهذا الاتجاه.
استفاقت ديبلوماسية فرنسا. يقرّ الرئيس الفرنسي، في زيارةِ الدولة التي قام بها إلى المغرب في الأيام الأخيرة، أنَّ “الحاضرَ والمستقبلَ للأراضي الصحراوية يندرجان في إطارِ السيادة المغربية”. اكتشفَ أنَّ “الحُكمَ الذاتي تحت السيادة المغربية هو الإطارُ لحلِّ هذا النزاع”. ووفق هذه الأبجديات التي تَتَّسِقُ مع “النظّارة” التي تحدّث عنها العاهل المغربي، تفتح المملكة أبوابًا مُشَرَّعةً أمام فرنسا ورئيسها.
وَفدٌ من 122 شخصية رافقَ ماكرون إلى المغرب. في الملفّات ارتقاءٌ بعلاقاتِ السياسة وروابط الثقافة وعقدٌ لاتفاقيات الدفاع والأمن والاقتصاد. لكنَّ الرئيسَ الفرنسي في المغرب عادَ لاستنشاقِ هواءِ أفريقيا الذي تستفقده باريس في السنوات الأخيرة ويطمحُ لإطلالةٍ من خلال بوّابة المغرب. تراجَعَ وَهجُ فرنسا في أفريقيا. كثرت مظاهر وظواهر العداء ضد فرنسا في القارة السمراء. كان ماكرون قد أنهى عملية “برخان” في منطقة الساحل، وطُرِدَت القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
أشارَ ماكرون أمام البرلمان المغربي بأنَّ الموقفَ الفرنسي “ليس عدائيًا تجاه أحد”. كان الرئيس الجزائري قد ألغى زيارةً إلى فرنسا، فيما عناوين صحف باريس علّقت على زيارة ماكرون للمغرب واعتبرتها صفعةً ضد الجزائر. أدرك ماكرون أنه لا يستطيع أن يربحَ كل السباقات، فراهنَ على ما باتت تعتبره باريس حصانًا رابحًا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى