هل ستَعودُ بيروت يوماً إلى… بيروت؟
بقلم مايكل يونغ*
التجوّل حول بيروت وفي شوارعها هذه الأيام يكشف حقيقةً مُرّة، وهي أن أعداداً كبيرة من المباني في المدينة، بما فيها بعضٌ من أجمل قصورها التراثية القديمة، مهجورة وجاهزة للهدم. هناك العديد من الأسباب لذلك، ليس أقلّها أن العديد من المُلّاك لا يرون سبباً وجيهاً لتجديد وإعادة بناء عقاراتهم لأنهم يأملون في بيع الأرض بسعرٍ أعلى.
تبدو هذه الصورة مناسبة لهذه اللحظة في لبنان. بيروت تعيش أزمة هوية، ولأول مرة منذ عقود لا تشعّ المدينة إلّا بالفشل. لقد انهار لبنان اقتصادياً، وسقط مئات الآلاف من الناس في براثن الفقر أو هاجروا، لذا فإن انهيارَ التراث المعماري لبيروت يرمز إلى قطيعة نظيفة بين ماضي المدينة الآسر وحاضرها المُتفتّت.
لكن ما مدى صحة هذه الصورة؟ ليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها بيروت مثل هذه الأزمة. في الواقع، يبدو أن كل أزمة جديدة تحمل معها بُعداً دائماً آخرَ لهوية المدينة. الحرب الأهلية اللبنانية بين العامين 1975 و1990 جعلت البلاد إلى فترة طويلة مكاناً للحرب، وبيروت محورها وقلبها. حتى بعد أكثر من ثلاثة عقود من انتهاء الصراع، ما زال العديد من الأجانب يتخيّلون أن الناس في بلد الأرز ما زالوا يقتلون بعضهم بعضاً.
ومع ذلك، حلّت تلك الهوية في زمن الحرب محل العديد من الهويات التي اتّخذتها بيروت في فترة ما قبل الحرب. قلبٌ ثقافي جذّاب للعالم العربي، فرّ إليها مُفكّرو المنطقة ومنفيون سياسيون وصحافيون هرباً من الطغاة في أوطانهم. كانت بيروت، كما قيل، مدينةً تنشر كتباً وتُراهن بالأفكار، على عكس الأنظمة القومية العربية الكئيبة التي كان يحكمها ضباط في معظم البلدان الأخرى في المنطقة.
جاء السيئ مع الجيّد. بين أواخر الستينات الفائتة والحرب الأهلية في العام 1975، كانت بيروت أيضاً عاصمة الثورة، حيث خططت الجماعات الفلسطينية المُسَلَّحة والمنظمات اليسارية الأوروبية لشنّ هجمات ضد أهدافٍ غربية وإسرائيلية من المدينة. لقد إتّخذ الإنفتاح الفكري لبيروت وهويتها الحرة وجهاً مُدمِّراً ذاتياً، واعداً بقلب استقرار لبنان الحسّاس والهشّ.
عندما انتهت الحرب في العام 1990 وكان لبنان في حالة خراب، أعادت بيروت اختراع نفسها مرة أخرى، كمكان للبعث – طائر الفينيق ينهض من رماده، على حد تعبير الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل في العام 1983، الذي اضطر إلى الانتظار ما يقرب من عقد من الزمان كي يصبح هذا التنبؤ حقيقة. مدير هذا الإحياء سيكون رفيق الحريري، الذي أصبح رئيس وزراء لبنان في العام 1992.
كان الحريري يتصارع مع الهويات المُتضاربة لبيروت، ولا يحصل على المزيج الصحيح. لقد أراد ببساطة إعادة إنشاء مشروع الأعمال الذي كان سائداً في حقبة ما قبل الحرب، لكن رؤيته اصطدمت بجوانب أخرى من هوية المدينة. إنتقد العديد من المُثقّفين، وخصوصاً اليساريين، رؤيته الرأسمالية للمدينة، التي اعتبروها نُخبَوية ومُبتَذلة إلى حد ما.
في نظر مُنتقديه، كان الافتقار في رؤية الحريري يكمن في غياب فكرةٍ مُثيرة لهدفٍ أكبر يمكن لبيروت أن تخدمه. وكما قال لي الروائي الياس خوري في مقابلة أُجريتها معه في العام 1993: “الطبقة الحاكمة الجديدة في لبنان تريد أن تجعله … هونغ كونغ صغيرة من أجل السلام العربي-الإسرائيلي. هذا خيارٌ واحد. لدينا آخر: أن نجعل لبنان جزءاً من البحث عن الديموقراطية والهوية والتغيير في العالم العربي”.
ولا بدّ أن تشاؤم خوري قد خفّ وانخفض بعد اغتيال الرئيس الحريري في العام 2005. بحلول ذلك الوقت، كان العديد من اللبنانيين يرون أن الحريري، رُغم كل الانتقادات المُوجَّهة إليه بسبب مساعدته على إنشاء نظامٍ مالي طفيلي بعد الحرب، كان ليبرالياً نسبياً أيضاً في اعتناق التعدّدية.
كان هذا على عكس المجموعة الثانية التي تدفع ضد رؤيته لبيروت، وتتمثّل بـ”حزب الله” وداعميه السوريين والإيرانيين. كانوا يتوقون إلى الوقت الذي كانت فيه المدينة “عاصمة المقاومة” ضد إسرائيل والولايات المتحدة. في السنوات الأولى من إعادة الإعمار، لخّص السياسي المخضرم وليد جنبلاط هذه الثنائية المستحيلة بشكل جيّد عندما قال إن على لبنان الإختيار بين أن يكون هونغ كونغ أو هانوي في الشرق الأوسط.
في حين ظنّ أولئك الذين قتلوا الحريري أنهم قد حققوا ذلك، إلّا أنهم لم يحلّوا بشكل كافٍ التناقض الرئيس لبيروت – كونها مكاناً مُنفتحاً على الخارج وعلى الأفكار الليبرالية، ومع كونها أيضاً قلعة “مقاومة” لا تثق في الانفتاح والتسامح. في العقد ونصف العقد منذ اغتيال الحريري، لا يزال هذان المُكوّنان اللبنانيان يتصارعان على ما يجب أن تُجسّده بيروت.
في آب (أغسطس) 2020، بدا أن أولئك الذين يطمحون إلى فتح بيروت قد تم إسكاتهم بشكل دائم عندما دمّر نصف المدينة انفجارٌ هائل في مينائها. لقد تعرّض العديد من الأحياء القديمة في بيروت، إلى جانب سكانها، للموت والدمار. وأفاد بعض التقارير إن مزوّدي “المقاومة” كانوا مُتوَرِّطين في تخزين وحماية نترات الأمونيوم التي تسبّبت في مثل هذا الدمار.
لكن في أعقاب ذلك، كان أولئك الذين ما زالوا يسعون إلى بيروت عالمية مفتوحة هم مَن أعادوا بناء المدينة. لقد أظهروا، ليس للمرة الأخيرة، أنه حتى في أحلك اللحظات هناك جوانب من بيروت لا يُمكن إسكاتها. أولئك الذين يعتقدون أن بإمكانهم فرض هويةٍ مُطلقة واحدة عليهم الحذر. لطالما عرفت بيروت بخياناتها. مع مرور الوقت، فقد سَئمَت من أولئك الذين يعتقدون أن المدينة ملكهم.
- مايكل يونغ هو زميل كبير في كارنيغي الشرق الأوسط ورئيس تحرير مدوّنتها”ديوان”، وهو أيضاً كاتب مقال في صحيفة “ذي ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كَتَبَ الكاتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.