صفعتَان قاسيَتَان بفارق 60 سنة
بقلم هنري زغيب*
التذكيرُ بالصفعات أَقسى مِن تَلقِّيها. هنا اثنتان منها:
في 30 تشرين الثاني (نوڤمبر) 2020 صدرَت افتتاحية “لو موند” بعنوان “لبنان دولة ممسوخة لم تعُد قابلةً للحُكْم”، جاء في مقطع منها: “لبنان لم يعُد دولة. الحكْم فيه بين أَيدي سياسيين تقليديين حزبيين طائفيين، وقادة عسكريين سابقين، واتِّـجاريين محتكِرين. إِنهم طبقة سَرَطانية في السياسة العامة، بارعون في السياسات الملتوية. كلُّ همهم الحفاظُ على كراسيهم في السُلطة، وإِعاقة كل بادرة تهدِّد بتدمير مصالحهم”.
هذا ما صدر قبل 12 يومًا عن السياسيين اللبنانيين في الحكْم.
وهذا ما صدَر قبل 60 سنة عن السياسيين اللبنانيين في الحُكم: سنة 1959 اتَّصل الرئيس فؤاد شهاب ببعثة “إِرفِد” – أَسَّسها سنة 1959 الأَب الدومينيكاني الفرنسي لويس جوزف لوبريه (1897-1966) – واستدعاها لتقوم بدراسة تخطيطية لمدينة بيروت، ضمن خطة نهوض أَطلقَها الرئيس شهاب لبناء دولة مؤَسسات إِدارية ومالية واقتصادية، تكون للستينات نهضةً في لبنان رائدةً في محيطه.
جاءت البعثة بمهندسين مدينيين ومعماريين أَخذوا يدرسون ويخطِّطون، نظريًّا وميدانيًّا، لبيروت الغالية عروس هذا الشرق، فتكتسب من مخططات الأَب لوبريه كما من تصاميم المهندس المديني الآخر ميشال إِيكوشار (1905 – 1985) ما يجعلها مدينة نموذجية رائعة.
غير أَن أَحلام الفرنسيين ببلادنا خابَت حين راحت تصطدم بفساد إِداري وسياسي فاجع حوَّل مشاريع “إِرفِد” رمادًا عوض أَن يتلقاها المسؤُولون اللبنانيون فرصة من الفرنسيين لنهضة عمرانية جميلة تحسُدنا عليها حتى ﭘـاريس.
وكي لا أَشرح أَكثر، أَنقُل حرفيًّا بعضَ ما ورد سنة 1961 في ختام تقرير بعثة “إِرفِد” لدى مغادرتها لبنان يأْسًا وخيبةً: “أَكثر ما ينقُص لبنان: لا شبكات المياه والطرقات والكهرباء، بل مسؤُولون ينصرفون مخْلصين إِلى الشأْن العام، يعملون معًا في جميع القطاعات فيحلُّون المشاكل المتعدِّدة وطنيًّا وإِنسانيًّا. وما لم تَقُم ذهنية جديدة من نخبة لبنانية شابة فتُطلق ثورة فكرية وأَخلاقية تَعُمُّ البلاد، سيبقى الإِنماء هشًّا، ويعجز لبنان عن أَداء دوره الداخلي المتين والدولي الرسالي: مركزًا حضاريًا فريدًا. ولا نجاح لفرادته إِذا اصطدم هذا الدور بتنامي السياسات الفردية الأَنانية المدمّرة. وحدَه العمَل الجَماعي الوطني الشامل هو الذي يُنقذ روح الأُمة اللبنانية”.
قبل 60 سنة، تلك خاتمة تقرير “إِرفِد”.
وقبل 12 يومًا، هذه خاتمة افتتاحية “لوموند”: “رغم كل ما جرى في بيروت، تتصرَّف الطبقة الحاكمة في لبنان كأَن كلَّ ما في البلاد طبيعي، فتُكمل في تزويراتها الموروثة واختلاساتها السرية وإِنكاراتها السافرة. ومع استمرار هذه الحال، لن يستقطب لبنان من الدول اهتمامها بل خيبتَها ومَلَلَها وانصرافَها عنه بتهذيب، وهذا أَقسى ما سيعانيه هذا البلدُ الذي كان له، ذاتَ سحابةٍ من الزمن، أَن يُدهش العالم”.
الصفعتان المتشابهتان إِيَّاهما، بفارق 60 سنة، على ضمير المسؤُولين اللبنانيين إِيَّاهم.
بلى: التذكيرُ بالصفعات أَقسى مِن تَلقِّيها.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.