الصراعُ الفلسطيني – الإسرائيلي: هل تَغَيَّرت المُعادلة؟

فيما ينتظر العالم تسلم الرئيس الأميركي المنتَخب جو بايدن السلطة في 20 كانون الثاني (يناير)، ينتظر الفلسطينيون بدورهم ما إذا كان هناك أي أمل بعد لإيجاد حلّ لقضيتهم.

الرئيس الأميركي المُنتَخَب جو بايدن: هل يُغيّر المعادلة؟

بقلم الدكتورة سنية فيصل الحسيني*

طوال فترة ولايته، وهي الأطول في تاريخ إسرائيل، سعى بنيامين نتنياهو إلى تنفيذ رؤيته التوسّعية في ما يتعلّق بالأراضي الفلسطينية التي احتُلَّت في العام 1967. وقد تم التعبير عن رؤيته بوضوح في قانون الدولة القومية، الذي ينصّ على أن “الدولة تنظر إلى تطور الإستيطان اليهودي كقيمة وطنية وستعمل على تشجيع وتعزيز إقامته وتوطيده”. وأوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي موقفه في آخر اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة في خطابٍ وَصَفَ المطالب الفلسطينية المُتمثّلة بحق عودة اللاجئين، والإنسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإجلاء المستوطنين الإسرائيليين من الضفة الغربية، غير واقعية.

سياسة نتنياهو تجاه فلسطين

في الضفة الغربية، إنتهج نتنياهو سياسةً لتقويض السلطة الفلسطينية. وبينما قاطعها سياسياً ورفض التفاوض معها، فقد كان أكثر من سعيدٍ بالحفاظ على التعاون الأمني والمعاملات المالية معها بشروط ٍمواتية لإسرائيل. لدفن حلّ الدولتين، عمل نتنياهو على إبقاء غزة والضفة الغربية تحت قيادتين مُتنافستَين، مُعلناً علناً أن الإنقسام يخدم استراتيجية إسرائيل المُتمثّلة في جعل الدولة الفلسطينية المستقبلية أقل احتمالاً. في الوقت عينه، أبقى نتنياهو غزة تحت حصارٍ صارم من أجل تضييق الخناق على حركة “حماس” وإجبار سكان غزة على العيش في ظروف محفوفة بالمخاطر. صحيح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سمح بتدفق الأموال القطرية إلى غزة عبر إسرائيل، لكن وراء الدوافع الإنسانية المزعومة تكمن حسابات إسرائيلية براغماتية.

إن رؤية نتنياهو المُستَندة إلى سياسات إسرائيلية سابقة ليست جديدة بالطبع. منذ بدء احتلال الأراضي الفلسطينية في العام 1967، سعت إسرائيل إلى استعمار وضمّ أكبر قدرٍ مُمكن من الأراضي. لكن نتنياهو أظهر عداءً فريداً تجاه الأهداف السياسية للفلسطينيين – وعدم استعداده للتفاوض معهم – نادراً ما صدر عن أيٍّ من أسلافه. في العام 1993، وقّعت حكومة إسحق رابين (1992-1995) على “إعلان مبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت”، المعروف باتفاقية “أوسلو 1”. مَنَحَت هذه الاتفاقية منظمة التحرير الفلسطينية شبه حكمٍ ذاتي ودعت إلى حل قضايا “الوضع الدائم”، مثل الحدود وحق العودة والسيادة على القدس في غضون 5 سنوات. وأصبح نتنياهو رئيساً للوزراء للمرة الأولى في العام 1996، العام الذي أعقب اغتيال رابين. خلال فترة عمله التي استمرت ثلاث سنوات، امتنع عن تنفيذ أحكام الإتفاقية. كانت الحكومات المُتعاقبة أكثر استيعاباً، حيث تفاوض رئيس الوزراء إيهود باراك (1999-2001) مع الفلسطينيين في محادثات كامب ديفيد التي رعتها الولايات المتحدة، وسحب رئيس الوزراء أرييل شارون الجنود والمستوطنين الإسرائيليين من غزة.

وكاد أن يُحقّق رئيس الوزراء إيهود أولمرت (2006-2009)، الذي تفاوض مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، إنفراجة، لكن تقدّمه توقّف عندما أجبرته تُهَم الفساد على الإستقالة التي أدّت إلى انتخاباتٍ أعادت تنصيب نتنياهو في السلطة. على الرغم من محاولات وتملّق إدارة أوباما، رفض نتنياهو قبول الإتفاقات المُوَقَّعة سابقاً كإطار للمفاوضات. إن نتنياهو يختلف عن رؤساء الوزراء الإسرائيليين الآخرين، الذين جلسوا على الأقل إلى طاولة المفاوضات وأعلنوا، ولو بالكلام، تأييدهم لحلّ الدولتين، حتى مع قيامهم بتوسيع المستوطنات. مرة واحدة فقط – في خطاب ألقاه في جامعة بار إيلان في العام 2009 – أعرب عن دعمه لحل الدولتين، وهو الدعم الذي تراجع عنه لاحقاً. تُظهر التصريحات والقرارات التي أصدرها نتنياهو خلال فترة ولايته رغبته الشديدة في استبدال عقود من الاتفاقات الموقعة برؤيته الخاصة. كانت هذه الرؤية نفسها التي انعكست في ما يسمى بـ”صفقة القرن” التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب، وصُمِّمَت لإرضاء نتنياهو بدلاً من تقديم خارطة طريق قابلة للتطبيق من أجل سلام عادل.

إسرائيل في المنطقة الأوسع

مع إنطلاق ثورات “الربيع العربي” في 2010-2011، بدأت ديناميكية إقليمية جديدة في الظهور. تحوّل الإنتباه عن قضية فلسطين لأن القوى العربية الكبرى، وخصوصاً مصر وسوريا، أصبحتا مُنشَغِلتين بمشاكلهما الداخلية. لم يعد بإمكان هذين البلدين لعب أيّ دورٍ مُهم عملياً في دعم الفلسطينيين، الأمر الذي أطلق العنان لإسرائيل في الأراضي المحتلة. كما وافقت مصر على احتواء “حماس” مُقابل مساعدة إسرائيل على محاربة المُتمرّدين التابعين ل”داعش” في سيناء. هذا مجرد مثال واحد على كيفية قيام الدول العربية بوضع المساعدات الأمنية من إسرائيل فوق التضامن مع الفلسطينيين.

شرقاً، التهديد الإيراني لدول الخليج العربي برز في أوساط وبقاعٍ مُختلفة، ما جعلها تتقرّب أكثر إلى الولايات المتحدة أولاً ومن ثم إلى إسرائيل أيضاً. لضمان الدعم والحماية الأميركية والإسرائيلية، كان على هذه الدول الخليجية أن تغض الطرف عن سياسات إسرائيل العدوانية تجاه الفلسطينيين. إلى جانب ضغوط الرئيس ترامب، خلقت هذه التطورات الظروف للموجة الأخيرة من اتفاقات التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل، بما فيها تلك التي وقّعتها بالفعل الإمارات والبحرين وكذلك أخيراً السودان.

سعت إسرائيل دائماً إلى فصل القضية الفلسطينية عن سياقها العربي. واعتبر نتنياهو اتفاقات التطبيع الأخيرة وسيلة لإنهاء الفيتو الفلسطيني على العلاقات العربية-الإسرائيلية الأوسع. من الواضح أن التطبيع يعني تراجع الدعم العربي للفلسطينيين في صراعهم مع إسرائيل. إن صيغة السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، التي دعمتها مبادرة السلام العربية لعام 2002 والتي تستند إلى صيغة “الأرض مقابل السلام” المنصوصة بصراحة في قرار مجلس الأمن رقم 242، أصبحت مُهمَلة بسبب تطبيع خمس دول عربية علاقاتها مع الدولة العبرية.

نجح نتنياهو في إضافة عوامل جديدة إلى المعادلة الفلسطينية-الإسرائيلية قد تسمح لإسرائيل تقديم مطالب أكثر وانتزاع تنازلات أكبر من الفلسطينيين في المفاوضات المستقبلية. ربما لن يتمكن أي زعيم إسرائيلي مُستقبلي من تحدّي أو عكس ما فعله نتنياهو، بخاصة في ضوء الإنجراف الواضح للمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين. علاوة على ذلك، فقد استوعب بعض الدول العربية هذه التغييرات في الساحة الفلسطينية-الإسرائيلية وكيّف نهجه تجاه القضية الفلسطينية وفقاً لذلك.

إن العاملَ الوحيد الذي يُمكنه أن يُعيقَ استراتيجية نتنياهو والجهود الإسرائيلية لتغيير معالم الصراع هو الفلسطينيون أنفسهم. الخيارات المُتاحة للفلسطينيين في هذه المرحلة تبدو محدودة. ومع ذلك، قد يشعرون بالإرتياح عند معرفة أنهم مرّوا طوال هذا الصراع الذي دام قرناً من الزمان بأوقاتٍ سيئة، إن لم تكن أسوأ. مصدرٌ آخرٌ من العزاء هو الدعم الواسع الذي لا تزال تتمتع به قضيتهم في جميع أنحاء العالم، وكذلك الأمل في أن الظروف في المنطقة وأماكن أخرى ستتغيّر لصالحهم. على سبيل المثال، من المُرجّح أن يتجاهل الرئيس الأميركي المُنتَخَب جو بايدن صفقة القرن التي وضعها ترامب ويُعيد إقامة علاقات طبيعية مع الفلسطينيين. أخيراً، الخيار الأخير للفلسطينيين، إذا أصبح حلّ الدولتين مُتعذِّراً وغير قابلٍ للتطبيق، هو الدعوة إلى حلّ الدولة الواحدة. وفي مواجهة الإحتمال غير المرغوب فيه لسيناريو الدولة الواحدة، قد تُغيّر إسرائيل سياساتها أخيراً.

تحاول الحكومة الإسرائيلية جاهدة الضغط على الفلسطينيين سياسياً ومالياً، ومن غير المُرجّح أن يتلاشى هذا الضغط في أي وقت قريب، بخاصة إذا ظلّ نتنياهو في السلطة. على الرغم من أنها لم تفعل ذلك رسمياً، إلّا أن إسرائيل تراجعت عن الإتفاقات المُوَقَّعة سابقاً، وتصرّ على جعل “صفقة القرن” الإطار الوحيد لحل قضية فلسطين. وقد علّقت الحكومة الإسرائيلية خطة الضمّ، لكنها قد تُنفّذها في وقت ما في المستقبل. من الناحية المالية، فإن إسرائيل هي وحدها التي تُقرّر مقدار أموال الضرائب التي يتم تحويلها إلى السلطة الفلسطينية، وهي تحجز الأموال من جانب واحد تحت ذرائع مختلفة. من جانبها، أوقفت الولايات المتحدة الدعم المالي للفلسطينيين وضغطت على الدول العربية لقطع الدعم المالي للسلطة الفلسطينية التي تمرّ بأزمة مالية حادة.

لقد نجح نتنياهو في استغلال التغييرات في العلاقة الفلسطينية-الإسرائيلية وفي الشرق الأوسط ككل لتعزيز موقفه السياسي الداخلي على الرغم من مشاكله وإخفاقاته. ساعد موقفه المُتشدّد تجاه فلسطين، إلى جانب تقدّمه الديبلوماسي في الشرق الأوسط الأوسع، على إبقائه وحزبه الليكود على رأس السياسة الإسرائيلية على الرغم من سلسلة الأزمات المحلية. إن غالبية الإسرائيليين تدعم خطة الضم واتفاقات التطبيع مع الإمارات والبحرين (والسودان). وعلى الرغم من تراجع قوة الليكود إلى حدّ ما، إلّا أنه لا يزال يتمتع بدعم قوي في استطلاعات الرأي. إن نتنياهو يظل “الأنسب” لرئاسة الوزراء في نظر الجمهور الإسرائيلي، مُتقدِّماً على يائير لابيد، نفتالي بينيت، أو بيني غانتس. وبشكل ملحوظ، حظي أخيراً نفتالي بينيت، الذي يتفوّق على نتنياهو من اليمين، بارتفاعٍ طفيف في الدعم على حساب رئيس الوزراء الحالي.

حتى وسط انتشار فيروس كورونا ومزاعم الفساد، حافظ نتنياهو على شعبيته إلى حد كبير. إن إحكام السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة ليس هدفاً إيديولوجياً فحسب، بل هو أيضاً استراتيجية فعّالة لتعزيز الدعم الإنتخابي للناخبين اليمينيين. ولهذا أعلن أخيراً عن نيته بناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة في الضفة الغربية، الأمر الذي ستكون له عواقب سياسية وديموغرافية دائمة. كلما طالت مدة بقاء نتنياهو في السلطة، أصبحت رؤيته للعالم راسخة أكثر كنموذج دائم للعلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية. وبالتالي، فإن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في ما يتعلق ببناء المستوطنات وعملية السلام من غير المحتمل أن تتغير على الإطلاق، حتى بعد أن يترك نتنياهو منصبه.

  • الدكتورة سنية فيصل الحسيني هي أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة العربية الأميركية في فلسطين، وكاتبة وباحثة نشرت العديد من المقالات والأبحاث السياسية. عملت الحسيني مع السلطة الوطنية الفلسطينية لأكثر من عقدين في أدوار إعلامية وديبلوماسية. الآراء الواردة في هذا المقال تُمثّلها وخاصة بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى