تِسعُ مناراتٍ من لبنان الثقافة

مي الريحاني*

الثقافة والإِبداع في لبنان تَـحَـدٍّ متواصلٌ ضدَّ الإنهيارات الاقتصادية والسياسية.

كثيرون في لبنان خائفون على الهوية اللبنانية، ومنبعُ خوفهم ما يشهدونه من انهيارات سياسية واقتصادية. لكنني أرى صعوبةَ أن يتمكّنَ مأزق السياسة والاقتصاد من زعزعة هذه الهوية النابعة من التنوُّع والحرّيات والإبداع والآفاق الجديدة والحداثة وكسر السقوف الزجاجية والقدرة الجبارة على استمرارية العطاء.

بلى: الإِبداعُ هو العامل الأَساسي لتمكين هذه الهوية وبلورتها. لذا: لا خوفَ على الهوية اللبنانية. فالإبداع يطرد الطغيان ويهدم سلطة التقوقع، والحرية تخلعُ عن أيام اللبنانيين ثقل القوانين البالية، والحداثة تكسر الجدران والسقوف الزجاجية وترمي إلى الوراء التقاليد المُكبِّلة، والعطاء الفني مؤَمَّن بكثرة ينابيعه. لهذا، وأقولها بثقة: لا خوف على الهوية اللبنانية، فالإبداع اللبناني يدرك أنْ لا نهاية للعطاء الحضاري اللبناني، وأنَّ بيادر الخلق الفكري مليئة، وأنَّ حقولَ الإنتاج الفني لا حدود لها.

ساطعٌ مشرقٌ عطرُ العطاء الثقافي والفني في لبنان. إيقاعه رقصٌ ساحر، كرمه عود يملأ الأمسية إرهافًا، جمالُه شعر لا حدود لأبعاده الجديدة، تاريخه متحف خاص للوحات ترفع مجد الفن الحديث، ومسرحه يذكِّر بذاك الرائد اللبناني أمين الريحاني الذي فتح باب الغرب على مصراعيه ونشر أول رواية باللغة الإنكليزية كتبها عربي.

خلال رحلتي الأخيرة إلى لبنان لخمسةِ أسابيع، زرتُ الإبداع اللبناني وزال من وجداني القلقُ على الهوية اللبنانية، لأنها ابنة الإبداع والحريات والتنوُّع والمساواة والحداثة. فالهوية اللبنانية مولودة من القُدرة على رفض القمع، وكسر الأبواب الزجاجية، والتلاقي في المساحات المشتركة، والغوص على حب الجمال.

الهوية اللبنانية هي كلُّ ما ذكرتُ، وأكثر: هي إِبداعٌ جريْء لا حدود له، واقتناعٌ عميق أنْ لا خوفَ من التلاقي الدائم بين احترام التاريخ واكتشاف الآفاق الجديدة.

وهي ذي المنارات التسع التي عاينتُها خلال زيارتي الأخيرة.

المنارة الأولى: زياراتي منارات الإبداع اللبناني ابتدأت بحضوري أمسيةً عن الياس أبو شبكة وشعره المتمرّد. كان ذلك لدى “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأميركية LAU، نظَّمها مدير “المركز” الشاعر هنري زغيب، وتحدَّث فيها عن أبو شبكة في النصف الأول من القرن العشرين، وعن دوره الواضح في تجديد وتحديث الأدب العربي ورفض الانصياع إلى قيودٍ تقليدية تضيِّق مساحة الحرية للشعر كما تُقيِّد مساحة الحرية للانسان. الياس أبو شبكة صوتٌ لبناني يفهم هوية لبنان من منظار الحريات.

المنارة الثانية: زيارتي الثانية كانت للمسرحية الغنائية “فينيقيا” إحدى روائع عبد الحليم كركلا. “فرقة كركلا للرقص” تتحدى اليأْس بالفرح والرقص، وتنفي فكرة التشاؤم بإعلان أن الحياة المشتركة والمساحات الاحتفالية هي شلالات أمل وتصوُّر مستقبلي نستطيع أن نحققه. “فرقة كركلا للرقص” تمرَّدت على الفريسيين في هيكل السياسة والاقتصاد، وطردَتْهم من طريق الرقص معًا، كتفًا إلى كتف، ومن طريق ربط الرقص بالتاريخ. “فرقة كركلا” تتحدى التشاؤم بأجسادٍ تطير في الهواء وتهبط على مهل، تتلاصق بالخشبة وتُصلّي.

المنارة الثالثة: بحثٌ كأنه حوارٌ وجداني عن مي زيادة، اللبنانية الرائدة. كان الحديث حوارًا مع الدكتور طلال درجاني، المنظِّم الأساسي لـ”المسرح الآخر”، أكاديمية للممثلين هي الأولى والوحيدة في لبنان والعالم العربي، تُقدِّمُ فرصةً لكلِّ مَن يطمح في أن يصبح ممثلًا محترفًا بمهاراتٍ عالمية. الحوار لم يكن عن الأكاديمية بل كان عن مي زيادة، الرائدة التي فتحت أول صالون أدبي في العالم العربي، وجمعت فيه أهم مُفكّري وأدباء العالم العربي في أوائل القرن العشرين. هذه الرائدة الرائعة مرت بمرحلة صعبة في حياتها. الجريء، البروفسور طلال، قرر أن يُمَسرِحَ مرحلةً معينة من حياة مي. لم ينتخب أن يُمسرِحَ المرحلة الذهبية المتألقة من حياة مي بل المرحلة الصعبة. فطلال درجاني يحبُّ تحدي الأمور الصعبة.  قال لي: “مي زيادة سيدة المسرحية ولكن لا أكون وفيًا لمي خلال هذه المرحلة إن لم تكشف خشبةُ المسرح عن دورَي أمين الريحاني وجبران خليل جبران في هذه المرحلة”. أنتظر الإعلان عن تاريخ افتتاح هذه المسرحية التي ستحمل مفاجآتٍ عدة.

المنارة الرابعة: زيارتي دير “سيدة الزيارة” دعتني إليه رئيسة الدير الأخت مارانا سعد للاستماع إلى سهرة “جَدَل” الموسيقية في ساحة الدير. العنوان فكري، ادبي، ثقافي، أحياهُ العود سيّد السهرة. في ساحة الدير سافرنا على موسيقى العود إلى عالم الإبداع المطلق، استمعنا بشغف إلى “حوار” بين عود مارسيل خليفة وعود شربل روحانا. تناجى العودان وباحا بمشاعر وجدانية. مزق هذا البوح كل المفاهيم الخاطئة عن العود، ورفع العود إلى مركز سيد الآلات الشرقية. وفي ختام السهرة، زارنا محمود درويش من طريق عود وغناء مارسيل خليفة. وقرر “دير سيدة الزيارة” وجمهور هذه الأمسية التصفيق لثلاثة مبدعين: مارسيل خليفة ومحمود درويش وشربل روحانا، وقرر الجمهور أيضًا الوقوف بخفر للراهبة مارانا التي جمعت هؤلاء الثلاثة تحت سماء عينطورة، القرية الكسروانية التي أحبت نجوم السماء، ونجوم لبنان وفلسطين.

المنارة الخامسة: زيارتي متحف سرسق في بيروت، وضعتْني في حضن العصر الذهبي في لبنان: الستينيات إلى منتصف السبعينيات، عندما كانت بيروت تعجُّ بصالات عرض لفناني الحداثة، سباقة في عرض كل مغاير وحديث. كانت بيروت “ست الدنيا” في ذلك الوقت. العطاء الفني والحضاري النابع من بيروت كان يدفع بجميع الأبواب على مصراعيها كي يدخل ما هو جريْء ومبتكر إلى باحات وساحات بيروت. يرفض متحف سرسق أن تنسى ذاكرتنا الجماعية أن شفيق عبود وبول غيراغوسيان ورفيق شرف وعارف الريس وسيسي سرسق وحسن جوني وجان خليفة وغيرهم شربوا من ينابيع لبنان وراحوا يزرعون أَفكارًا وألوانًا جديدة حديثة في شوارع بيروت وفي مدن لبنان.

المنارة السادسة: حلقة على شاشة تلفزيون “الجديد”، كتبها أنطوان غندور عن أمين الريحاني الرائد المتمرّد، روَت لنا كل ما هو ريادة عند أمين الريحاني. سافر من الفريكة سنة ١٩١٠ إلى لندن لمحاولة إقناع أصحاب المسارح في هذه المدينة بعرض أول مسرحية ألّفها كاتبٌ عربي باللغة الإنكليزية. ثم سافر الريحاني إلى نيويورك فنجح في إقناع إحدى أشهر دور النشرالأميركية بنشر روايته “كتاب خالد” أول رواية كتبها أديب عربي بالإنكليزية ونُشِرَت في نيويورك. جرأة الريحاني في الريادة لا حدود لها. أظنه والريادة توأمان يقتاتان يوميًا من نبع مياهٍ جديدة ويلعبان في ساحات الابتكار والابداع.

المنارة السابعة: من الفريكة إلى دير مار جريس في قرية الشاوية المَتنية. ساحة الدير الخارجية مُحاطة بشجر الزيتون، تكّلمَ فيها ممثل وزير الثقافة ونقيب الحرفيين وشاعر رائع، وآخرون عن المعلم فوزي الفاخوري أحد أواخر معلمي الفخار في بيت شباب. إحتفالٌ ذكَّرَ الجميع بنُبل عطاءات بيت شباب “ضيعة الضيعات” كما سمّاها أمين الريحاني في كتابه “قلب لبنان”. عطاءاتُ بيت شباب تشملُ ثالوثًا مقدَّسًا: الأجراس، الفخَّار، الديما. وأظن الفخار هو الرابط الأساسي بين الإنسان والأرض. الفخار يُذكّرُ أننا من التراب وإلى التراب نعود، كما يذكِّرنا بأنَّ ماء إبريق الفخار تروي عليلنا أكثر من أيّ ماء آتية إلينا من أي مدينة في العالم، وأن مونة البيت الساكنة جرار الفخار الآتية من بيت شباب هي التي تصبح بيوتًا لأثمن ما عند أهل قرى لبنان من “مونة” لأشهر الشتاء. خوابي الفخار هي المخازن الغنية للزيت والزيتون والتين المطبوخ وغيرها من أطايب الحياة. ختام تلك الامسية كان خطابُ مُنظّم الاحتفال الدكتور والفنان برنار غصوب، صديق المعلم فوزي الفاخوري، وربما تلميذه. المعلم فوزي الفاخوري ربما هو آخر معلِّم أصيل وعريق خَلَقَ من التراب والماء خوابي لا لتؤمّن لأهل القرى أهم عناصر المونة فقط وإنما لخلق ذكرياتٍ غنية بالفرح والخفر، وترسم على جدران البيوت القروية قصصًا يرويها الأجداد للأحفاد حول كانون النار أيام البرد في فصل الشتاء، عن فخّار من الماء والتراب عمره آلاف السنين.

المنارة الثامنة: لدى قصر الأُونِسكو في بيروت، تلبيةً لدعوة ندى فرحات، سيدة من الاغتراب اللبنانى، تدعم بمحبة واعتزاز الإبداع في لبنان، لحضور معرض غاندي بو ذياب ابن الشوف. قبل افتتاح المعرض قال الناقد والناشر سليمان بختي: “الثقافة تلملمُنا” وهو كلامٌ يتحدّى السياسة والاقتصاد. صحيح: تستطيع السياسة أن تلملمنا ولكن كثيرًا ما لا تقوم السياسة بواجبها. السياسة بحاجة إلى رئيس/ة قادر/ة على الجمع لا على التفرقة. في ندوة “ما وراء الحرف واللون في أعمال غاندي بو ذياب” تكلمت الدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر والشاعر نعيم تلحوق. ومما قاله المتكلمون: “الكتاب سينتصر، واللوحة ستنتصر”… “الفن ليس سوى الكمال في تقليد الواقع”… “غاندي لا يخاف الألوان ولكنه يخاف اللون الواحد”… في لوحات غاندي أصبحت “أرغفة الصباح قرابين”. وأظن أن غاندي بو ذياب يؤرّخ حياة القرية اللبنانية من طريق اللون، وينحت في ذاكرتنا رائحة خبز الصاج  ومحبة المنديل الأبيض.

المنارة التاسعة: مشاركتي في الاحتفال بمئوية كتاب “النبي” لجبران. نظَّمهُ مؤتمرًا “مركزُ التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأميركية LAU بمشاركة اختصاصيين لبنانيين وأجانب. تكلم في جلسة الافتتاح رئيس الجامعة الدكتور ميشال معوض، والدكتور فيليب سالم، وأنا. أدار جلسات المؤتمر مدير “المركز” الشاعر هنري زغيب. استهلَلْتُ كلمتي هكذا: “قد يقول البعض: “كيف تحتفلون بصدور كتاب ولبنان يتخبّطُ بأزماتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية لا حدَّ لها، تهدِّد كل ما هو حياة لبنانية مستقرة، متعافية، مزدهرة.” وجوابي: “هذه السنة، أكثر من أيّ سنة مضت، علينا أن نعود إلى الينابيع”. فهذه الينابيع ثقافية وفكرية، مبنية على العطاءات المستمرة من لبنان إلى العالم بكل ما هو غنى إنساني للفكر وللحريات والابتكار والمساواة والمحبة والتسامح والسلام في العالم. ولهذا نحتفل اليوم بكتاب النبي”.

***

تسعُ محطات ثقافية مُضيئة في خضمِّ عاصفة سياسية واقتصادية هوجاء.

تسع منارات ترفض العتمة الفكرية وتتمرَّد على الذين لا يؤْمنون بأن العطاء الفكري والثقافي وخصوصًا الإبداعي في لبنان هو الذي سيحافظ على الهوية اللبنانية.

تسعة عطاءات ثقافية تؤكِّد أن الحريات والابتكار هما الخبز اليومي في لبنان، وأن ديمومة هذه العطاءات نابعة من الوهج الثقافي الخلاق المبني على تراث غني ومتجدّد.

من هنا أَن لبنان ورشة ثقافية متواصلة.

  • مي الريحاني هي كاتبة وشاعرة لبنانية باللغتين العربية والإنكليزية. وهي أيضًا ناشطة في حقوق المرأة. كانت نائبة رئيس لثلاث منظمات أميركية رائدة تعمل في مجال التنمية الدولية: أف إتش آي 360، وأكاديمية تطوير التعليم، وإبداعات إنترناشيونال. شغلت منصب الرئيس المشارك لمبادرة الأمم المتحدة لتعليم الفتيات بين العامين 2008 و2010. وهي حاليًا مرشّحة لرئاسة الجمهورية اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى