الحربُ في أوكرانيا ستزيد من تَعقيدِ العلاقاتِ الأميركية – الصينية

بغض النظر عن موعد انتهاء الحرب الروسية-الأوكرانية ومعايير التسوية، فمن الواضح أن الغزو الروسي يُشكّل نقطة تحوّلٍ في السياسة الخارجية الأميركية في ما يتعلق بالصين وأيضًا على نطاق أوسع.

الرئيسان شي جين بينغ وفلاديمير بوتين: “حلف بلا حدود” هل يصمد بعد حرب أوكرانيا؟

علي وين*

رُغمَ مرور أكثر من شهرين على غزو روسيا لأوكرانيا، لا يزال من غير الواضح متى وكيف سينتهي هذا الصراع. ومع ذلك، هناك نقاشات قوية تجري فعليًّا حول التأثير المُحتَمَل لعدوان موسكو في السياسة الخارجية الأميركية تجاه الصين وكذلك على التوقّعات الاستراتيجية الأوسع لواشنطن.

في المدى القصير، يبدو من المرجّح أن الحرب ستُقوِّض جهود الولايات المتحدة لإعادة توازن تركيزها على منطقة آسيا والمحيط الهادئ والمنافسة الاستراتيجية مع الصين – ومن المفارقات، بسبب أداء القوات الأوكرانية الذي كان أفضل بكثير مما كان مُتَوَقَّعًا. نظرًا إلى الاختلال الهائل بين القدرات العسكرية الروسية التقليدية وتلك الخاصة بأوكرانيا، افترض العديد من المراقبين بشكل منطقي أن أوكرانيا ستستسلم سريعًا في حالة حدوث غزو روسي واسع النطاق. لو حدث الأمر كذلك، وعانت أوكرانيا من عددٍ قليل من الضحايا العسكريين والمدنيين، فليس من الواضح هنا ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنجذب بشكل كبير إلى التدخّل، حيث لن يكون لديها الوقت الكافي لتنسيق الرد مع الحلفاء والشركاء الرئيسيين؛ ولن يكون عليها أن تتعامل مع الوحشية المتصاعدة لروسيا في إدارتها للحرب.

كلّما زادت مقاومة القوات الأوكرانية، زاد الدعم العسكري الذي يُقدّمه الغرب، وزاد إطلاق القوات الروسية لصواريخهم الطائشة والعشوائية المدمّرة- وهي حلقة مُفرَغة من المحتمل أن تتضاءل فيها الجهود الديبلوماسية. علاوة على ذلك، فكلما طال أمد حرب الاستنزاف هذه، زادت فرصة دخول قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) والقوات الروسية في صراعٍ مباشر – سواء من خلال التصعيد غير المقصود أو الاختيار المُتَعَمَّد. بالنظر إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثبت أنه أكثر تحمّلًا للمخاطر مما توقعه العديد من المراقبين، فلا يمكن للمرء أن يستبعد احتمال زيادة المخاطر، لا سيما جرّاء غضبه المتزايد من ضعف أداء الجيش الروسي.

في المَدَيَين المتوسط ​​والطويل، سيعتمد تأثير الغزو الروسي على جهود الولايات المتحدة لاستئناف أولويات سياستها الخارجية تجاه الصين، جُزئيًا على الأقل، على حلّ الأزمة الحالية. من ناحيةٍ أخرى، قد تُشَكّلُ المواجهة المسلحة المباشرة بين “الناتو” وروسيا التحدّي الأكثر خطورة لإعادة التوجيه التي تأملها واشنطن منذ الهجمات الإرهابية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. (على الرغم من أن “المحور” نحو آسيا يرتبط عمومًا بإدارة أوباما، أوضحت نينا سيلوف أن إدارة جورج دبليو بوش جاءت إلى السلطة بهدف “إعادة التوجيه نحو آسيا”). ومن المرجح أيضًا أن يفرض مثل هذا السيناريو ضغوطًا كبيرة على إدارة بايدن لإعادة إنشاء هيكل الحَربَين – في إشارة إلى القدرة على خوض حربين رئيسيتين في وقتٍ واحدٍ كمستوى التأهب الأساسي للجيش الأميركي – كسياسة أميركية مُعلنة. في حين أن وثيقة التوجيه الاستراتيجي الدفاعي لعام 2012 لإدارة أوباما لم تتخلَّ صراحةً عن فكرة الحربين، فقد صاغت الوثيقة ما بدا أنه هدفٌ أقل طموحًا إلى حد ما، مُوَضّحة أن “قواتنا يجب أن تكون قادرة على ردع وهزيمة العدوان من قبل خصم انتهازي في منطقة واحدة حتى عندما تلتزم قواتنا بعملية واسعة النطاق في مكان آخر”.

على الطرف الآخر هناك سيناريو يمكن فيه للعدوان الروسي أن يُسَهِّل فعليًا إعادة التوازن للولايات المتحدة. إذا قامت الدول الأوروبية، بعد يقظتها الأخيرة الشديدة، باستثماراتٍ كاسحة لتوفير دفاعها العسكري وتوسيعها بمرور الوقت، فقد تصل الولايات المتحدة إلى استنتاج أن حلفاءها في “الناتو” سيكونون قادرين على مواجهة العدوان الروسي المستقبلي بعددٍ أقل من القوات والأصول الأميركية – لا سيما بالنظر إلى مدى تقلص القوة العسكرية وقدرة الردع لموسكو في نهاية الحرب.

إذا كان من الصعب تقييم التأثير النهائي لغزو روسيا في إعادة التوازن للولايات المتحدة، فإن نتيجتين على الأقل لعدوانها يمكن تمييزهما بسهولة أكبر. أولًا، من شبه المؤكد أن الوفاق الصيني-الروسي سيتعمّق. قبل القرار المصيري لروسيا بغزو أوكرانيا في 24 شباط (فبراير)، كان المراقبون الأميركيون يُركّزون بشكل أساس على الكيفية التي قد تخفف بها واشنطن من تقارب موسكو مع بكين. الآن، نظرًا إلى استحالة الديبلوماسية الجوهرية بين الولايات المتحدة وروسيا في المدى القريب، فإنهم يفكرون بدلًا من ذلك في الكيفية التي يمكن أن تتفوق بها واشنطن على بكين لتبنّي موقفًا أكثر برودة تجاه موسكو.

ومع ذلك، لسوء الحظ، هناك ثلاثة عوامل على الأقل ستتحدّى مثل هذا الجهد. أوّلًا، يتزايد انعدام الثقة الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين. ثانيًا، في حين أنه من غير المرجح أن تُقدّم الصين مساعدة عسكرية لروسيا أو تنتهك العقوبات الغربية -على الأقل علانية- ، فإنها تشارك العديد من المظالم التي تُعبّر عنها موسكو في ما يتعلق بسير السياسة الخارجية الأميركية وتكوين نظام ما بعد الحرب. ثالثًا، روسيا هي القوة الكبرى الوحيدة التي تتمتع الصين بعلاقات أفضل معها. في حين أن تنمية هذه الشراكة ستُبعد بكين عن الديموقراطيات الصناعية المتقدّمة التي نفّرتها في السنوات الأخيرة، فإن الابتعاد عن موسكو لن يعيد الخط الأساس للثقة.

ومع ذلك، حتى مع التمزّق المفاجئ في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا الذي من المرجح أن يعزز العلاقات الصينية-الروسية، فقد أصبحت العلاقة الآن أكثر إشكالية بالنسبة إلى بكين مما كانت عليه في أوائل شباط (فبراير)، عندما أعلن البلدان أن صداقتهما “لا حدود لها”. وكلما طال أمد الحرب، زاد الضرر الذي سيلحق بسمعة بكين بسبب ارتباطها بموسكو. إذا رأينا أيّ فك للعلاقة، فمن المرجح أن ينبع من إعادة المُعايرة الصينية وليس بسبب الضغط الأميركي.

ستكون النتيجة المحتملة الثانية للغزو الروسي مزيدًا من التدهور في العلاقات الأميركية-الصينية. تشعر واشنطن بالإحباط بسبب رفض بكين محاولة كبح جماح وحشية موسكو، بينما تشعر بكين بالقلق من المدى الذي يمكن أن يتسبب فيه الغرب المُوَحَّد بشكل مؤقت في إلحاق أضرار اقتصادية شديدة بالمنافسين. ولأن الصين هي الشريك الرئيس لروسيا، فإن انهيار العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا سيكون له تأثير غير مباشر في العلاقات بين بروكسل وبكين.

ومع ذلك، فإن السرد الذي يطرح تحالفًا من الديموقراطيات في مواجهة تحالفٍ استبدادي صيني-روسي مُبالَغٌ فيه لأربعة أسباب على الأقل. أولًا، من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيكونان قادرَين على الحفاظ على وحدتهما الحالية مع انحسار صدمة الأزمة الحالية وتزايد ظهور عواملها الخارجية، بما في ذلك اضطرابات الطاقة المتزايدة وانعدام الأمن الغذائي. ثانيًا، لا تُعالِج الأزمة الاختلال الجوهري بين أولوياتهما الاستراتيجية: في حين يتعيّن على الاتحاد الأوروبي الآن توخّي الحذر الشديد ضد العدوان الروسي، ستسعى واشنطن إلى استئناف تركيزها على منطقة آسيا والمحيط الهادئ بمجرد أن يكون ذلك ممكنًا. ثالثًا، كما يوضح ردّ الهند على الغزو الروسي، في حين أن بعض الديموقراطيات قد تكون على استعداد للانضمام بشكل وثيق ومتزايد إلى الولايات المتحدة في معارضة الصين، فقد تكون أكثر حذرًا في معارضة روسيا – والعكس صحيح. رابعًا، فإن الغالبية العظمى من دول العالم، بما فيها معظم الديموقراطيات، ترغب بشدة في تجنّب الانجرار إلى منافسةٍ طويلةِ الأمد بين القوى العظمى التي تفترض بثبات أبعادًا أكثر اتساعًا.

بغض النظر عن موعد انتهاء الحرب ومعايير التسوية، فمن الواضح أن الغزو الروسي يُشكّل نقطة تحوّلٍ في السياسة الخارجية الأميركية في ما يتعلق بالصين وأيضًا على نطاق أوسع. يُجادل بعض المراقبين بأن ذلك ينبغي له أن يكشفَ بشكلٍ نهائي عن أن سياسةً خارجية تتمحور حول آسيا والمحيط الهادئ هي مُجرّد وهم. وهم يؤكدون أن محاولات الولايات المتحدة لإعادة التوازن بعيدًا من الشرق الأوسط قد مكّنت الحرب الأهلية والنشاط الإرهابي من الازدهار في تلك المنطقة، في حين أن الجهود الموازية لإزالة الأولوية من أوروبا مكّنت من إشعال حربٍ على أراضيها وإحداث صدمة في القارة من جديد. وخلصوا إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تبذل بنفسها قوة أكبر لوقف تآكل النظام الحالي.

ويجادل آخرون بأن الغزو الروسي يُوضّح ببساطة وَهمُ القوة المُطلقة للولايات المتحدة. وهم يؤكدون أن أميركا ساهمت في تدهور قوتها النسبي من خلال التوسّع المفرط في الشرق الأوسط وأوروبا. وخلصوا إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تتنازل عن حدود هذه القوة بشكل أكثر صراحة وأن تستخدم قوتها بشكل أكثر انتقائية لتثبيت سلطتها الاستراتيجية، مع التركيز على تنفيذ إعادة التوازن التي طال انتظارها في آسيا، محور الاقتصاد العالمي.

على الرغم من ذلك، مهما كان المسار الذي تتخذه الولايات المتحدة، يجب ألّا تسمح واشنطن لموسكو وبكين بإملاء سياستها الخارجية أو التأثير فيها. يجب أن تسعى جاهدة إلى صياغة سياسة خارجية تستمر بغض النظر عن الإجراءات التي تتّخذها منافستاها.

  • علي وين هو محلل أول في ممارسات الماكرو العالمية التابعة لمجموعة أوراسيا. وهو مؤلف الكتاب المقبل “فرصة القوة العظمى لأميركا: تنشيط السياسة الخارجية للولايات المتحدة لمواجهة تحديات المنافسة الاستراتيجية” (بوليتي، 2022).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى