الجيش السوداني يخسر حرب العلاقات العامة – والحرب الحقيقية

حققت قوات الدعم السريع نجاحات مدوية على جبهة العلاقات العامة، على الرُغمِ من أنها نفّذت حتى الآن إبادة جماعية ثانية في دارفور، فضلًا عن استخدام المدنيين كدروع بشرية واحتلال منازلهم بالقوة في الخرطوم ومناطق أخرى تحت سيطرة الجيش السوداني.

جرائم قوات التدخل السريع: لم تنتشر دوليًا كما يجب..

الفاضل إبراهيم*

في 26 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، سقطت مدينة “نيالا” السودانية في أيدي قوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي تخوض حربًا أهلية ضد القوات المسلحة السودانية منذ نيسان (أبريل). “نيالا” ليست ثاني أكبر مدينة في السودان فقط، هي أيضًا بوابة البلاد إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يقال إن قوات الدعم السريع -بقيادة محمد حمدان دقلو، أو حميدتي- تتلقى من خلالها أسلحة من مجموعة “فاغنر” الروسية، بالإضافة إلى مقاتلين تم جذبهم إلى السودان للحصول على وعودٍ بالنهب.

تحت قيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، فقد الجيش السوداني الآن السيطرة على أكبر مدينتين في السودان –العاصمة الخرطوم، والآن نيالا. ومع ذلك، يواصل الجيش إظهار قوته في رسائله العامة، ويرفض الاعتراف بأيِّ انتكاساتٍ في تصريحاته.

والحقيقة أنه منذ اندلعت الحرب لأول مرة في نيسان  (إبريل) الماضي، كانت القوات المسلحة السودانية تعمل على تغذية عامة الناس بشعورٍ زائفٍ بالأمل. وعندما لم تكن رسائلها مُضَلِّلة، يتم الخلط بينها. في المقابل، انخرطت قوات الدعم السريع في حملة متّسقة وفعّالة في إطارِ جهودها الخاصة لتشكيل الرأي العام العالمي، وترويج السرد القائل بأن قواتها تشنُّ حملةً عادلة نيابةً عن السكان السودانيين الذين تُرهِبهم.

في الأيام الأولى من الصراع، أصدرت القوات المسلحة السودانية العديد من التصريحات بأن الحرب ستنتهي بسرعة. على سبيل المثال، زعم الفريق فتح الرحمن محيي الدين، في ظهوره على قناة “سكاي نيوز عربية”، “بثقة كبيرة” أنَّ القتال سينتهي “في غضون ساعات قليلة”، وأنَّ الأمرَ مجرد مسألة “تنظيف” بقايا مقاتلي قوات الدعم السريع في الخرطوم.

في الواقع، كانت قوات الدعم السريع في تلك اللحظة بالذات تحرز تقدمًا سريعًا في العاصمة، بدءًا من شمال الخرطوم -أو بحري- والخرطوم نفسها، قبل أن تنتشر غربًا إلى أم درمان. ومع خضوع المناطق الثلاث المُكَوِّنة للعلصمة لسيطرة قوات الدعم السريع، أصبح مصير المدينة محتومًا.

وعلى الرغم من أن الجيش استمر في خسارة الأراضي منذ ذلك الحين، إلّا أنه يحتفظ بميزة رئيسة على قوات الدعم السريع: الزخارف الرسمية للدولة أي الشرعية. كان البرهان هو رئيس الدولة الفعلي عندما اندلعت الحرب في نيسان (إبريل)، بعد أن استولى على السلطة مع حميدتي في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 من الحكومة الانتقالية التي كان يقودها مدنيون والتي تمَّ تشكيلها بعد الإطاحة بالديكتاتور السابق عمر البشير في العام 2019. ونتيجةً لذلك، لا يزال يتمتع بالسلطة التنفيذية، وقد استخدم صلاحياته الإدارية لحلِّ قوات الدعم السريع رسميًا وتجميد حساباتها المصرفية.

وبعد أن حرّرَ نفسه في آب (أغسطس) من القيادة العامة للجيش في قلب الخرطوم حيث كانت قوات الدعم السريع تحاصره منذ نيسان (إبريل)، قام البرهان بجولة حول العالم شملت دولًا عدة لتعزيز الدعم الدولي. وبلغت رحلته ذروتها في نيويورك، حيث ألقى بصفته الممثل الرسمي للسودان خطابًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر).

لكن القوات المسلحة السودانية تمكّنت من إهدار هذه الميزة بسبب رسائلها المشوّشة.

بدأ البرهان كلمته بالدعوة إلى تصنيف قوات الدعم السريع منظمة إرهابية. وقد ردّد هنا التصريح الذي أدلى به قبل أيام سفير السودان لدى الأمم المتحدة، والذي أدرج في جلسة مجلس الأمن جرائم قوات الدعم السريع ضد دولة السودان وشعبه، قبل أن يسأل بلاغيًا: “هل تفاوَضَ المجتمع الدولي من قَبل مع بوكو حرام أو “داعش”؟ كان الاقتراح الواضح هو أن الحكومة السودانية لن تشارك في حوارٍ مع قوات الدعم السريع، بل ستعمل بدلًا من ذلك على الضغط على المجتمع الدولي ضد منافسها.

وبدلًا من إطلاق حملة لعزل قوات الدعم السريع وتشويه سمعتها على المستوى الدولي، شكلت القوات المسلحة السودانية لجنة محلية مُكَلَّفة التحقيق بهدوء في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب المنسوبة إلى قوات الدعم السريع. لكنها لم تقدم خارطة طريق كيف يمكن لعمل اللجنة أن يردع مقاتلي قوات الدعم السريع عن ارتكاب المزيد من الجرائم أو يؤدي إلى اعتقال قادتها ومحاكمتهم على الجرائم التي ارتكبوها بالفعل.

علاوةً، الذي يزيد من تقويض أيِّ جهدٍ لعزل قوات الدعم السريع، هو أنه، مباشرةً بعد أن دعا البرهان إلى تصنيفها كمنظمة إرهابية في نيويورك، أشار في تصريحات للصحافيين إلى أنه منفتح على الحوار والمفاوضات مع المجموعة.

في الوقت نفسه، لا تزال القوات المسلحة السودانية تصرُّ على أنها قادرة على هزيمة قوات الدعم السريع عسكريًا، وهو ادّعاءٌ قوّضه الانتصار المعنوي الذي حققته قوات الدعم السريع في نيالا والتوغلات اللاحقة في ولاية الجزيرة ووسط السودان ومنطقة كردفان.

وعلى النقيض من استراتيجية الاتصالات المشوِّشة التي تتبعها القوات المسلحة السودانية، فقد حققت قوات الدعم السريع نجاحات مهمة على جبهة العلاقات العامة، على الرُغم من أنها نفّذت حتى الآن إبادة جماعية ثانية في دارفور، فضلًا عن استخدام المدنيين كدروع بشرية واحتلال منازلهم بالقوة في الخرطوم ومناطق أخرى تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية.

وقد فعلت ذلك من خلال الحفاظ على حملة علاقات عامة واضحة ومتّسقة مكرَّسة لتقديمِ نفسها كقوةٍ تدافع عن قضية عادلة. وكجُزءٍ من هذا الجهد، يتابع المتحدثون الرسميون عن كثب نقاط الحوار المُصَمَّمة لتشكيل رواية تصور قوات الدعم السريع على أنها تقاتل من أجل الديموقراطية ضد الحرس القديم الإسلامي في السودان. وعلى هذا المنوال، تؤكد رسائلها على أن القوات المسلحة السودانية هي حاضنة للإسلاميين المتطرفين، وأنها دمية في أيدي فلول نظام البشير المخلوع.

علاوةً على ذلك، أكّدَ المتحدّثون باسم قوات الدعم السريع مرارًا وتكرارًا على أنها لن تُوقِفَ الأعمال العدائية حتى تستقيل قيادة القوات المسلحة السودانية ويتم إجراء إعادة هيكلة شاملة للجيش للقضاء على الضباط الإسلاميين. وفي تلك المرحلة، تدّعي قوات الدعم السريع أنها ستُلقي أسلحتها، حيث سيتمّ تمهيد الطريق لانتقالٍ مدني ديموقراطي.

وبطبيعةِ الحال، فإنَّ التحوّلَ الديموقراطي الذي تدّعي قوات الدعم السريع أنها تناضل من أجله يُشكل تهديدًا كبيرًا لوجودها، حيث تحتاج قوات الدعم السريع إلى مجالٍ سياسي عسكري من أجل البقاء. ومع ذلك، فإن رسائلها مقبولة بما فيه الكفاية للمجتمع الدولي لمواصلة التعامل معها.

يتم التعامل مع المنظمة باعتبارها محاورًا ضروريًا ويتم وضعها على قدم المساواة مع القوات المسلحة السودانية في جهود الوساطة التي يبذلها الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)، وكذلك الديبلوماسيون الأميركيون والسعوديون الذين يتوسطون في محادثات وقف إطلاق النار في جدة. وفي أيلول (سبتمبر)، على سبيل المثال، إستقبلَ رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي ورئيس ديوانه محمد الحسن ولد لبات، المستشار السياسي لحميدتي، يوسف عزت، لإجراء محادثات في أديس أبابا.

وفي حين أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا عقب ذلك الاجتماع اتهمت فيه الاتحاد الأفريقي بمنح “حركات المعارضة المسلحة والميليشيات شرعية لا تستحقها” -وهو بيانٌ وصفه ولد لبات بأنه “غير مسؤول”- فقد رحبت قوات الدعم السريع ديبلوماسيًا بجميع جهود الوساطة، بما في ذلك من مصر، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقوات المسلحة السودانية وكانت المحطة الأولى للبرهان في جولته الخارجية في آب (أغسطس). وعلى الرغم من الدعم العسكري الذي تقدمه القاهرة للقوات المسلحة السودانية، وصف عزت -المستشار السياسي لحميدتي- مصر بأنها “دولة مهمة وشقيقة”، مُضيفًا أنَّ “أي دور مصري في وقف العنف مُرَحَّبٌ به”.

ومما يزيد من دهاء قوات الدعم السريع في مجال الاتصالات، دعمها لتشكيل بعثة دولية لتقصّي الحقائق أنشأها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الأطراف المتحاربة في السودان، على الرُغم من حقيقة أنَّ قوات الدعم السريع كان لها نصيب الأسد من الانتهاكات المُرتَكَبة ضد المدنيين أثناء النزاع. ومن المرجح أن تعتمد قوات الدعم السريع على تحقيق فوائد قصيرة المدى تتعلق بالسمعة من هذه الخطوة، على الرُغم من أن المهمة ستكشف في نهاية المطاف عن قائمة جرائم الحرب الخاصة بالمنظمة. ولكن، بحلول ذلك الوقت، سيكون جهاز العلاقات العامة التابع لقوات الدعم السريع قد صاغ مجموعة شاملة من النفي والتفنيد لأيِّ نتائج تشير إلى تورّط قواته.

ومع ذلك، وعلى الرغم من تفوقها العسكري الواضح على القوات المسلحة السودانية، يظل من غير المرجح أن تتمكن قوات الدعم السريع من السيطرة على البلاد بأكملها، ناهيك عن حكمها. ومن الناحية الجغرافية، رسم القتال مناطق سيطرة واضحة لكلا الطرفين المتحاربين، ويبدو من المرجح بشكل متزايد أن السودان يتجه نحو سيناريو الحكومتين، كما هو الحال في ليبيا المجاورة.

لكن، في الوقت الحالي، تتمثل العقبات الرئيسة أمام مثل هذا السيناريو في افتقار قوات الدعم السريع إلى أيِّ استراتيجية للحكم، وحقيقة أن أيًا من الفصائل السياسية المدنية في السودان لن يخاطر برأسماله السياسي من خلال الارتباط العلني به. ولا يمكن لأيِّ قدرٍ من العلاقات العامة الفعالة أن يخفي حقيقة أن قوات الدعم السريع تشكل تهديدًا خطيرًا للسكان المدنيين في السودان وأمن المنطقة.

ويرفض المتحدّثون باسم قوات الدعم السريع صورة المنظمة باعتبارها ميليشيا غير منضبطة. لكن هذه الصورة مستمَدّة من تاريخ جنودها في الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان. وقد اتبعت قوات الدعم السريع في السودان خلال توسعها منذ نيسان (إبريل) نمطًا مألوفًا ومثيرًا للقلق، سواء في الخرطوم أو العيون أو ود عشانا أو نيالا. عندما تدخل شاحنات قوات الدعم السريع إلى المدينة، يحزم المدنيون أمتعتهم وينتقلون إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات المسلحة السودانية أو يغادرون البلاد تمامًا إذا كانت لديهم الوسائل. وفي الوقت نفسه، يقوم جنود الدعم السريع بمضايقة المدنيين الذين لا يقتلونهم وفرض الضرائب عليهم، بينما يقومون بتدمير المعالم العامة ونهب الغنائم، مع تفضيل الذهب والنقود والسيارات.

إنَّ الرسائل المتناقضة والمثيرة للجدل التي ترسلها القوات المسلحة السودانية لا تفيدها في توليد الدعم من المجتمع الدولي الذي لا يزال مُشَتَّتًا بسبب الحرب في أوكرانيا وأخيرًا في غزة. وما لم يتغير ذلك، فإن قوات الدعم السريع ستستمر في تحقيق النجاح في الترويج لروايتها الخاصة، على حساب الشعب السوداني بثمنٍ باهظ.

  • الفاضل إبراهيم هو كاتب ومحلل سياسي متخصص في الشؤون السودانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى