مِن تأنيبيّةِ ماكرون إلى مَرثاةِ عون

بقلم سجعان قزي*

لا يوجد وقتٌ ضائعٌ لبنانيٌّ، فالأزمةُ الشاملةُ داهمةٌ، وثمنُ كلِّ لحظةٍ حياةٌ أو موت. لكنْ، يوجد وقتٌ ضائعٌ أميركيٌّ، فالسِباقُ الرئاسيٌّ يُحلِّلُ المحرَّمَ بَحثًا عن صوتٍ لترامب حتى لو وُجِدَ في الناقورة أو دمشق أو طهران أو اليمن أو أفغانستان. لذا يُستحسَنُ ألّا تبنيَ الأطرافُ اللبنانيّةُ كافةً مواقفَها على وقعِ التصريحاتِ والتحرّكاتِ الأميركيّةِ الأخيرة لأنّها “بِنتُ ساعتِها” ولا تُعبِّـرُ، بالتالي، عن سياسةِ أميركا بعدَ الإنتخاباتِ الرئاسيّةِ أيًّــا يَكن الفائزُ.

سياسةُ أميركا ثابتةٌ في الأساسيّات ومتغيّرةٌ في التفاصيلِ والأشخاص، ولبنانُ ليس مِن بينِ الدولِ الخاضِعةِ لإعادةِ نظرِ السياسةِ الأميركيّةِ تجاهَها إلّا بقدر ما نحن نَفرِضُ واقعًا جديدًا تأخذُه واشنطن بالإعتبار. الّذين يَتباهون بصداقةِ أميركا في لبنان ذائعو الصِيت، والّذين تُخاصِمُهم نارٌ على علم. لكنَّ اللافتَ أنَّ أخصامَها يَستفيدون منها أكثرَ من أصدقائها. البعضُ يُفسِّرُ ذلك تواطُؤًا من تحتِ الطاولة، فيما السببُ أنَّ أصدقاءَ أميركا مُبعثَرون ومُختلِفون وتُعْوِزُهم استراتيجيّةٌ سياسيّةٌ جامعةٌ وواضِحة، في حين أنَّ أخصامَها أذكياءُ ويَملِكون أوراقَ تفاوضٍ ومقايضةٍ ويُحسنون استخدامَها. وآخِرُ مظاهرِ ذلك: الحفاظُ على الهدوءِ الأمنيِّ في الجَنوب، التغاضي النسبيُّ عن اتّفاقاتِ السلامِ الخليجيّةِ-الإسرائيليّة، الشَراكةُ المباشَرةُ في مفاوضاتِ ترسيمِ الحدودِ اللبنانيّةِ-الإسرائيليّة، وتفضيلُ سعد الحريري لتأليفِ الحكومة.

لذلك، إنَّ الإدارةَ الأميركيّةَ هي من تُطالبُ السياسيّين اللبنانيّين بإعادةِ النظرِ في ذواتِهم وأخلاقيّاتِهم، في أدائِهم وانقساماتِهم، في دويلاتِهم وسلاحِهم، في تقييمِ الأولويّاتِ والإنصرافِ إلى بناءِ دولةٍ لبنانيّةٍ محترَمةٍ وقويّة. أيُّ إدارةٍ أميركيّةٍ، بل أيُّ رئيسٍ جديدٍ ديموقراطيٍّ أو جُمهوريٍّ، يَقدِرُ أن يُساعدَ لبنان عَبر هذه المنظومةِ السياسيّةِ الفاقدةِ الضميرِ والأهليّةِ وروحِ المسؤوليّة؟ الرئيسُ الفرنسيُّ إيمانويل ماكرون جاءَ إِلى بيروت مرَّتين في شهرٍ واحدٍ، وناشدَ هذه المنظومةَ الحاكمةَ والمعارِضةَ وتوسَّلَ إليها أن تَنزَعَ خلافاتِها وتؤلِّفَ حكومةً وتسيرَ في الإصلاحِ. حَجَزَ ماكرون دولَ العالم من أجلِ لبنانَ، فما كانت النتيجةُ؟ لا حكومةَ من دون هذه الحقيبةِ، ولا حقيبةَ من دون هذا الاسم، ولا اسمَ من دون تعيينٍ حزبيٍّ وطائفي، ولا إصلاحَ على حسابِ المنظومةِ السياسيّة، ولا إعادةَ نظرٍ في ازدواجيّةِ السلاحِ وتعدّديّةِ الوَلاء.

إهانةٌ للكرامةِ الوطنيّةِ (المفقودةِ) أن يَنتظرَ اللبنانيّون انتخاباتٍ رئاسيّةً في دولٍ أجنبيّةٍ، وأميركا تحديدًا، ليُقرِّروا مواقفَهم تجاهَ بعضِهم البعض، وشَكلَ الحكومةِ، ومصيرَ الشراكةِ الوطنيّة. كم انتخاباتٍ أميركيّةٍ جَرت منذ سنةِ 1975 إلى اليوم، ولبنانُ لا يزالُ يَنتقلُ من أزمةٍ إلى أخرى. عدا أنَّ سياسةَ انتظارِ الآخَرين هي اعترافٌ بتدويلِ الوضعِ اللبنانيّ، فهي تَكشِفُ أيضًا مجموعةَ عُقدٍ تَنخُرُ شخصيّتَنا الذاتيّةَ والسياسيّةَ والوطنيّة، من بينِها: عُقدةُ نقصٍ مزمنةٌ تُبقينا تحتَ رحمةِ الخارج كأنّنا تحت الإحتلالِ من دون احتلالٍ، وتحتَ الوصايةِ من دون وصاية، وتحتَ الحمايةِ من دون حماية. وعُقدةُ تبعيّةٍ ناتجةٌ عن اعتلالِ الولاءِ للوطنِ فنتعاطى مع الدولةِ كأنّنا مجموعةُ دويلاتٍ أجنبيّةٍ مُعتمَدةٌ لديها.

حريٌّ بنا ـــ إن كنّا مُوَحَّدين ـــ أن نَنتقلَ من سياسةِ انتظارِ الإنتخاباتِ الأميركيّةِ إلى سياسةِ استباقِها فنكونُ حاضرين لملاقاةِ الإدارةِ الجديدةِ وطرحِ قضيّتِنا ومطالبِنا. لكن هذه الـ”نحن” لا تَجدُ مَن تَنتسِبَ إليه: ليست الدولةُ موحَّدةً لكي تَتكلّمَ باسمِ اللبنانيّين، وليس اللبنانيّون متّفقين لكي يَتكلموا باسمِ لبنان. لذا، يُضطّرُ المسؤولون الأجانب إلى التَجوالِ على الأفرقاءِ اللبنانيّين وكأنهم رؤساءُ دولٍ مستقلّة. بعد زيارتِه لبنان، تَوجّه ديفيد شينكر مباشرةً إلى المغرب حيث اكتفى بلقاءِ نظرائِه في وزارةِ الخارجيّةِ المغربيّةِ وغادر إلى لندن. الدولةُ هناك دولةٌ تتكلم باسمِ الجميع. أما هنا، فدولةُ لبنانَ الواحِد ساقِطةٌ مع وقفِ التنفيذ. سَقطت وممنوعٌ إعلانُ الخبرِ قبل الإتفاقِ على البديلِ. وقد بات يتأرجح بين اللامركزيةِ بسلاحِ الدولةِ وحدِها، والفيدراليّةِ بــ”أسلحةٍ ميثاقيّة”.

صار لبنانُ يُشبِهُ وجهَ “جانوس” (Janus) (إلهٌ رومانيٌّ ذو وجْهين متناقضَين): وجهُ لبنان الوِحدويُّ الصيغويُّ المتَمثِّلُ في جماعاتٍ لبنانيّةٍ عابرةِ الطوائف تَبحث عن المستقبلِ الراقي والمُسالِـمِ والحياديِّ والحضاري، ووجهُ لبنان الـمُنقسِمُ والإنفصاليُّ المُتجسِّدُ في جماعاتٍ، عابرةِ الطوائف أيضًا، تبحث عن الماضي من خلال مشاريعَ سلطويّةٍ تَتجاوز الدستورَ والسِلمَ الأهلي. هناك لبنانُ الإنسانِ الباحثِ عن الآخَر، وهناك لبنانُ الطوائفِ الباحثةِ عن أنانيّاتِها على حسابِ الآخَر. وجهُ “جانوس” شُبّهَت به الإمبراطوريّةُ النمساويّةُ في بداياتِ القرن العشرين حين كانت بفَنِّها وثقافتِها حالةً وِحدويّةً، وكانت بقوميّاتِها وإثنيّاتِها المختلِفةِ حالةً تقسيمية. فنُّ “موزار” و”شتراوس” بَقي يُوحِّدُ العالمَ حولَ النمسا، لكنَّ الإمبراطوريةَ تَقسَّمت بعد الحربِ الأولى واكتَفت بحضارتِها، وكان خِيارُها صحيحًا يُقتدى به.

كلمةُ رئيسِ الجمهوريّةِ، ميشال عون، أمس ــــ وحبّذا لو احتفظَ بها لتكونَ خِطابَ نهايةِ ولايتِه ـــ أظهَرت الوجهَ السلبيَّ للبنانَ، إذ كَشفَت استحالةَ الإصلاحِ في ظلِّ هذه المنظومة، بل في ظلِّ هذه التركيبةِ المركزيّةِ. من هنا ضرورةُ الإسراعِ بتأليفِ حكومةِ طوارئ تُحيي الأملَ بالتغيير. اللبنانيّون يريدون حكومةً للمرفأِ، لبيروتِ المدمَّرة، لوقفِ الهِجرة، للمصارفِ المترنِّحة، للإقتصادِ الـمُنهار، لوِحدةِ لبنانَ المتصَدِّعة، للمفاوضةِ مع صندوقِ النقدِ الدوليّ، لاستعادةِ ثقةِ الناس. فلا نُضِيعَنَّ بين حكومةٍ سياسيّةٍ وأُخرى تِقنيّة. المزجُ مُمكنٌ بينهما لأنَّ الأصفياءَ موجودون في كلِّ مكانٍ كما الفاشلون. الصيغةُ الحلّ: أنْ تُسنَدَ الحقائبُ السياسيّةُ إلى سياسيّين، والأخرى إلى اختصاصيّين في إطارِ المداورةِ الطبيعيّة الشاملة.

لكن أنحنُ أمامَ حكومةٍ جديدةٍ أم مرحلةٍ جديدة؟ وأنحنُ أمامَ تأليفِ حكومةٍ جديدةٍ أم توليفِ دولةٍ جديدة؟

  • سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @AzziSejean
  • يصدر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى