كيف تشنّ إسرائيل حربها على التاريخ الفلسطيني

لم تكتفِ إسرائيل بتهجير الفلسطينيين وتدمير منازلهم وأراضيهم، فهي تستخدم مجموعة متنوعة من الوسائل لخلق تصور بأن سياساتها تجاه الفلسطينيين كانت مدفوعة بمخاوف أمنية.

 

من فيلم “جنين، جنين”: منذ 18 عاماً وإسرائيل تحاربه وتمنع عرضه.

بقلم جوناثان كوك*

عندما قام الممثل الفلسطيني محمد بكري بتصوير فيلم وثائقي عن جنين في العام 2002 – تم تصويره مباشرة بعد انتهاء الجيش الإسرائيلي من القمع والهيجان في مدينة الضفة الغربية، تاركاً الموت والدمار في أعقابه – اختار سرداً غير عادي للمشهد الإفتتاحي: شاب فلسطيني أخرس.

كانت جنين معزولة عن العالم منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع حيث قام الجيش الإسرائيلي بتدمير مخيم اللاجئين المجاور وإرهاب سكانه.

فيلم بكري “جنين، جنين” يُظهر الشاب وهو يهرع بصمت بين المباني المُدمَّرة، مُستخدماً جسده المُرتجف والمتوتر ليوضّح ويُبيّن  أين أطلق الجنود الإسرائيليون النار على الفلسطينيين، وكيف هدمت الجرافات المنازل، أحياناً على سكانها.

لم يكن من الصعب استنتاج المعنى الأكبر لبكري: عندما يتعلق الأمر بقصتهم، يُحرَم الفلسطينيون من أن يكون لهم صوت. إنهم شهودٌ صامتون على معاناتهم وإساءة معاملة شعبهم.

والمفارقة أن بكري واجه مثل هذا المصير بنفسه منذ إنتهى من تصوير “جنين جنين” قبل 18 عاماً. اليوم، لا يُذكَر سوى القليل عن فيلمه، أو الجرائم المروعة التي سجّلها، باستثناء المعارك القانونية التي لا تنتهي لإبعاده عن الشاشات.

ومنذ ذلك الحين، تم تقييد بكري في المحاكم الإسرائيلية بتهمة التشهير بالجنود الذين نفذوا الهجوم. لقد دفع ثمناً شخصياً باهظاً. تهديدات بالقتل، وفقدان العمل، وفواتير قانونية لا نهاية لها أوشكت على إفلاسه. ومن المتوقع صدور حكم في الدعوى الأخيرة المرفوعة ضده – بدعم من المدعي العام الإسرائيلي هذه المرة – في الأسابيع القليلة المقبلة.

بكري ضحية بارزة بشكل خاص للحرب الإسرائيلية الطويلة على التاريخ الفلسطيني. لكن هناك أمثلة أخرى لا حصر لها.

على مدى عقود، ظل المئات من السكان الفلسطينيين في جنوب الضفة الغربية يحاربون طردهم، حيث يصفهم المسؤولون الإسرائيليون بأنهم  يحتلون الأرض بدون وجه حق أو “واضعو اليد” (squatters). وبحسب إسرائيل، فإن الفلسطينيين هم من البدو الرحل الذين بنوا بتهوّر منازل على أرض استولوا عليها داخل منطقة للجيش يتدرّب فيها على إطلاق النار.

تم تجاهل ادعاءات القرويين المُضادة إلى أن تم الكشف عن الحقيقة أخيراً في أرشيف إسرائيل.

هذه المجتمعات الفلسطينية، في الواقع، مُسجَّلة ومُوَضّحة على الخرائط التي سبقت قيام إسرائيل. تُظهر الوثائق الإسرائيلية الرسمية التي قُدِّمت إلى المحكمة في الشهر الفائت أن رئيس الوزراء السابق أرييل شارون إبتكر سياسة إقامة مناطق إطلاق نار في الأراضي المحتلة لتبرير عمليات الإخلاء الجماعي للفلسطينيين مثل هذه التجمّعات في تلال الخليل. السكان محظوظون لأنه تم التحقق من ادعاءاتهم رسمياً، حتى لو كانوا لا يزالون يعتمدون على عدالة غير مؤكدة من محكمة الإحتلال الإسرائيلي.

لقد تم إغلاق أرشيف إسرائيل بسرعة، وعلى وجه التحديد لمنع أي خطر من كشف السجلات التي قد تؤكد التاريخ الفلسطيني المُهمَّش والمُهمَل منذ فترة طويلة.

في الشهر الماضي كشف مراقب الدولة الإسرائيلي، وهو هيئة رقابية، أن أكثر من مليون وثيقة مؤرشفة لا يزال يتعذر الوصول إليها، على الرغم من أنها تجاوزت تاريخ رفع السرية عنها. ومع ذلك، فقد تسلل البعض عبر الإنترنِت.

أكدت وثائق مؤرشفة، على سبيل المثال، بعض المذابح الواسعة النطاق التي ارتُكِبَت بحق المدنيين الفلسطينيين في 1948 – العام الذي أقيمت فيه إسرائيل من خلال تهجير الفلسطينيين وتجريدهم من وطنهم.

في إحدى هذه المذابح في الدوايمة، بالقرب من المكان الذي يقاتل فيه الفلسطينيون اليوم ضد طردهم من منطقة إطلاق النار، أُعدم المئات، رُغم أنهم لم يبدوا مقاومة، لترويع السكان ودفعهم إلى الفرار.

كما أكدت ملفات أخرى المزاعم الفلسطينية بأن إسرائيل دمّرت أكثر من 500 قرية فلسطينية خلال موجة من عمليات الطرد الجماعي في العام نفسه لثني اللاجئين عن محاولة العودة.

ودحضت الوثائق الرسمية أيضاً إدعاء إسرائيل بأنها ناشدت 750 ألف لاجئ فلسطيني العودة إلى ديارهم. في الواقع، كما يكشف الأرشيف، حجبت إسرائيل دورها في التطهير العرقي في العام 1948 باختراع قصة تغطية أن القادة العرب هم من أمروا الفلسطينيين بالمغادرة.

إن معركة محو التاريخ الفلسطيني لا تدور فقط في المحاكم والمحفوظات، فهي تبدأ في المدارس الإسرائيلية.

أظهرت دراسة جديدة أجراها أفنير بن عاموس، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، أن التلاميذ الإسرائيليين لا يتعلّمون شيئاً حقيقياً تقريباً عن الإحتلال، على الرغم من أن الكثيرين سيفرضونه ويُنفذونه قريباً كجنود في جيشٍ يُفترَض أنه “أخلاقي” يحكم الفلسطينيين.

تُزيل الخرائط الموجودة في كتب الجغرافيا ما يسمى بـ “الخط الأخضر” – الحدود التي ترسم حدود الأراضي المحتلة – لتقديم إسرائيل الكبرى التي طالما رغب فيها المستوطنون. تتجنّب دروس التاريخ والتربية المدنية أي نقاش حول الإحتلال، أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو دور القانون الدولي، أو القوانين المحلية الشبيهة بالفصل العنصري التي تُعامِل الفلسطينيين بشكل مختلف عن المستوطنين اليهود الذين يعيشون في الجوار بشكل غير قانوني.

بدلاً من ذلك، تُعرَف الضفة الغربية بالأسماء التوراتية “يهودا والسامرة”، ويشار إلى احتلالها في العام 1967 ب”التحرير”.

للأسف، فإن محو إسرائيل للفلسطينيين وتاريخهم يتردد في الخارج من قبل الشركات الرقمية العملاقة مثل “غوغل” (Google) و”آبل” (Apple).

قضى نُشَطاء التضامن الفلسطينيون سنوات في الكفاح من أجل إقناع كلا المنصّتين بأن تشمل خرائطهما مئات المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية التي لم تلحظها، تحت “هاشتاغ” أو وسم “#HeresMyVillage”. وفي الوقت نفسه، تحظى المستوطنات اليهودية غير الشرعية بالأولوية في هذه الخرائط الرقمية.

حملة أخرى، #ShowTheWall، ضغطت على عملاقَي التكنولوجيا لوضع علامات على خرائطهما على مسار الجدار الفولاذي والخرساني الإسرائيلي الذي يبلغ طوله 700 كيلومتر، والذي تستخدمه إسرائيل فعلياً لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة في انتهاك صارخ للقانون الدولي.

وفي الشهر الفائت أطلقت الجماعات الفلسطينية حملة أخرى، #GoogleMapsPalestine، تطالب بأن تُدعى الأراضي المحتلة “فلسطين”، وليس فقط الضفة الغربية وغزة. وكانت الأمم المتحدة إعترفت بدولة فلسطين في العام 2012 ، لكن “غوغل” و”آبل” رفضتا أن تحذو حذوها.

يزعم الفلسطينيون عن حق أن هاتين الشركتين تُكرران نوع اختفاء الفلسطينيين المألوف من الكتب المدرسية الإسرائيلية، وأنهما تؤيدان “رسم خرائط الفصل العنصري” الذي يعكس قوانين الفصل العنصري الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.

إن جرائم الإحتلال اليوم – هدم المنازل، واعتقال النشطاء والأطفال، والعنف من قبل الجنود، والتوسع الاستيطاني – توثّقها إسرائيل، تماماً كما كانت توثّق جرائمها السابقة.

قد يكتشف مؤرخو المستقبل يوماً تلك الأوراق من الأرشيف ويتعلموا الحقيقة. لم تكن السياسات الإسرائيلية، كما تدّعي إسرائيل الآن، مدفوعة بمخاوف أمنية، بل رغبة استعمارية لتدمير المجتمع الفلسطيني والضغط على الفلسطينيين لمغادرة وطنهم والإستعاضة عنهم بيهود.

الدروس للباحثين المستقبليين لن تختلف عن الدروس التي تعلّمها أسلافهم الذين اكتشفوا وثائق العام 1948.

لكن في الحقيقة، لسنا بحاجة إلى الإنتظار كل تلك السنوات من الآن فصاعداً. يُمكننا أن نفهم ما يحدث للفلسطينيين حالياً – ببساطة من خلال رفض التآمر لإسكاتهم. لقد حان الوقت للإصغاء والإستماع إليهم.

  • جوناثان كوك هو كاتب وصحافي بريطاني حائز على جوائز عدة، ويقيم في الناصرة حيث يكتب عن الشرق الأوسط، بما في ذلك الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @Jonathan_K_Cook
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى