الطريق إلى الجحيم الإقتصادي!

بقلم فيوليت غزال البلعة*

لم يَسبق للبنانيين أن وقعوا في فخّ هواجس قادتهم بعيداً إلى “سلبية عميقة” ناجمة عن أداءِ سلطةٍ سياسية مُشتّتة الأهواء والإنتماءات، لا تُوفِّر غطاءً آمناً إقتصادياً واجتماعياً لشعبٍ بات يَمتهن سياسة التأقلم لمواجهة ما يُفرَض عليه من قهرٍ أمام دولار الصيارفة، وذُلٍّ في التمسّك بوظيفة ولو بنصف راتب، على أمل أن يقيه المستقبل شرّ العاتي من العواصف.

لم يسبق للبنانيين أن وقعوا في فخّ الداخل الرافض لكلِّ مسعى نحو الخروج من الأزمات. فلا الحكومة حكومة إنقاذ إقتصادي، ولا مستشاريها أكفياء لدرجة معاونتها في مهمتها، ولا ما لدى العهد ما يكفل تطويق شرور معركة الرئاسة المُلتهبة قبل أوانها، ولا في بال أحزاب السلطة ما قد يُفرج قواعدها الشعبية. وحدها المعارضة الجامعة ما بين الحراك والمستقل من الأحزاب، تبقى في مواجهة الإملاءات الأفلاطونية لحلولٍ تبدأ من إبتكارات لأزمة الدولار ولا تنتهي عند دعم سوريا في جبه عقوبات “قيصر”.

حركةٌ نارية مفتوحة على “معركة الرئاسة” و”التغيير الحكومي”، وما بينهما معركة تغيير وجه لبنان الإقتصادي الحرّ وجرّه نحو “الشرق”، أو التمسّك بهويته وحاضنته العربية والغربية. وفي المستجدّ، “حوار بعبدا” يُضيف على السجالات حلقة لن تُقدّم أو تُؤخّر في مُسلسل الأزمات. فما جدوى الحوارات السياسية إن لم تكن هموم الناس وهواجسها هي البند الأول؟

الجوُّ السياسي عابقٌ بالعقد، حلولٌ بعضها متوافر ولا يحتاج إلّا إلى قرار، وبعضها الآخر مستعصٍ لتشابك الرهانات والإرتهانات بعيداً من احتساب المفاعيل. يُحذّر بعضهم من نموذج فنزويلا، فيما يُجاهر بعضهم الآخر بالذهاب نحو هذا الخيار و”بالسمع والطاعة”! يُدرك اللبنانيون أن فنزويلا، صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم مع نحو 300 مليون برميل، والغنية بالغاز وخام الحديد والذهب والإلماس، تحوّلت وفي أقل من ثلاثة عقود، من أغنى دول أميركا اللاتينية إلى أفشل دولة في العالم، ضاربة بمؤشراتها السلبية كل المعدلات القياسية، سلباً لا إيجاباً.

فهل صحيح أن لبنان، إن مالت “دوسة” الدوامة نحو مُثلّث العقوبات، سائر باتجاه النموذج الفنزويلي السيّىء؟

منذ العام 1999، دخلت فنزويلا المعسكر الإشتراكي مع إنتخاب هوغو تشافيز، “رئيس فقراء فنزويلا”، وتشكيله حكومة ديموقراطية إشتراكية. نادى بتكامل أميركا اللاتينية السياسي والإقتصادي، وأعلن عداءه للعَولمة وللإمبريالية الأميركية وحلفائها. سياسة تبنّاها الخَلَف نيكولاس مادورو منذ العام 2013، وأفضت إلى حصارٍ قاسٍ زاد من وطأته إنهيار أسعار النفط في العام 2013 والعقوبات الأميركية، فتراجعت صادرت الدولة المُصَنَّفة بين أكبر 10 دول منتجة للنفط في العالم، إذ شكّل إنتاج النفط نحو 98% من عائداتها التي بلغت نحو 750 مليار دولار بين 2004 و2015، من 3 ملايين برميل يومياً إلى أقل من مليون وفق آخر الإحصاءات المتوافرة…

لفنزويلا حالياً أسوأ نمو إقتصادي في العالم (توقّف المصرف المركزي عن إصدار بيانات النمو)، وأسوأ عملة محلية (تدهورت القيمة الشرائية للبوليفار)، وأسوأ معدل تضخم (أكثر من 1.6 مليون في المئة وفق صندوق النقد الدولي)، وأسوأ نسبة بطالة (لا إحصاءات)، إضافة إلى معاناتها من نقصٍ حاد في السيولة والأدوية والمواد الغذائية وانهيار الخدمات العامة، وتفشّي الفقر والجوع وهجرة اكثر من 4 ملايين فنزويلي بحثاً عن “حياة أفضل” في غير بلد احتلّ المرتبة التاسعة بين “أكثر دول العالم فساداً”، وفق منظمة الشفافية الدولية.

باختصار، تُعاني فنزويلا منذ نحو سبعة أعوام، أسوأ أزمة إقتصادية وإنسانية في التاريخ الحديث. هي خريطة الطريق إلى الجحيم الإقتصادي. فهل قرّر لبنان سلوكها؟

بحسب السيناريو الذي قدّمه الأمين العام لـ”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، قبل أيام، فإن الإنفتاح شرقاً والتعامل بالليرة اللبنانية تخفيفاً لإحكام قبضة الدولار على عنق الإقتصاد، أثار شهية الحكومة على طرح الخيار، واندفاعة وزير “الحزب” عماد حب الله، إلى إعلان وجود “إجماع” داخل الحكومة على خيار الذهاب نحو دول الشرق، وخصوصاً نحو روسيا والصين وسواهما لضمان مصلحة لبنان، “وإلّا تبقى خياراتنا محصورة بدول الغرب”… لكن، لم تجرؤ الحكومة على إعلان أي قرار، فتريّثت لجسّ النبض السياسي والشعبي.

لم يكن “قانون قيصر” هو المُسبّب لهذا الإنحراف في بعض الموقف الداخلي، بل هي رغبة مُزمنة في إعلان الخيارات بوضوح تحرّراً من مسايرات لم تعد تجدي. مفاعيل الطرح شغلت الصف السياسي ومعه الحكومة التي انشغلت عن فتح قنوات تحاور مع واشنطن لبحث استثناءات تَقيها تداعيات “قيصر” على التجارة البرية بين لبنان والدول العربية عبر سوريا (مرور الشاحنات)، وعلى استثناءات تتعلّق باستجرار نحو 220 ميغاوات من سوريا. لم تُسارع الحكومة إلى الإتصال بواشنطن، بل تردّد “أن الأردن وافق على الاستجابة لطلب لبنان تزويده بالطاقة التي يشتريها الأردن من سوريا، إن لم تستجب واشنطن لطلب الإستثناءات اللبنانية. لكن دمشق ردّت على سائليها برفضها لإمرار الطاقة عبر أراضيها”!.

قبل أيام، توقّع مصرف “جي بي مورغان” إنكماش النمو الإقتصادي للبنان بنسبة 14% هذا العام، بعد انخفاض 6.9% و1.9% في 2019 و2018 على التوالي. وإستبعد “عدم التوصل إلى اتفاق سريع مع صندوق النقد الدولي بسبب “حال عدم اليقين” المستمرة بشأن خطط إعادة هيكلة الديون ونطاق الإصلاحات الهيكلية”.

ما موقف حكومة “المُستشارين”؟ حكومةٌ لم تُبادر إلى درس خيار “النأي بالنفس” تطويقاً لتداعيات “قانون قيصر” العاجزة عن مواجهته، ولم تتقبّل نجاح “لجنة تقصّي الحقائق” البرلمانية في توحيد أرقام الخسائر المالية، تبدو مُسرعةً لوضع لبنان على الطريق نحو الجحيم الإقتصادي…

  • فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية.يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي والذي يُنشَر عليه في الوقت نفسه هذا المقال : arabeconomicnews.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى