صالون ميلان عبيد

بقلم رؤوف قبيسي*

كنتُ أظنُّ أن زمنَ المجالس الإجتماعية واالأدبية في لبنان قد ولّى إلى غير رجعة، بفعل المصائب السياسية والمالية التي حلّت على البلد الصغير، وأن عادات شعبه وتقاليده وحبّه للحياة قد تغيَّرت، إلى أن زرتُ لبنان قبل أن يُخيّم شبح كورونا على العالم بأشهر، فوجدت أن لا شيء من ذلك قد حصل، وأن المجالس قائمة مُزدهرة كما في الماضي. من هذه المجالس، صالون صديقنا الظريف ميلان عبيد، صباح ثلثاء من كل أسبوع، في مبنى المجلس الوطني للإعلام في بيروت. كثيرون يتوافدون إلى المجلس المذكور، وتتغيّر الوجوه بين أسبوع وآخر، أما الدائمون منهم، فهم الوزير الأسبق الدكتور ابراهيم حلاوي، والدكتور حسين كنعان، والكاتب عزت صافي، والصحافي جورج علم، والإعلامي محمد شري من قناة “المنار”، وقد ينضم إلى الإجتماع صديقنا الإعلامي عبد الهادي محفوظ، ومدير وزارة الإعلام الدكتور حسان فلحة.

ميلان عبيد رجلٌ كَيِّس، فصيح، لَبق، حلو الحديث خلّابه، وصاحب ذاكرة دقيقة.  يقص عليك أجمل القصص وأمتعها. ينقلك حديثه إلى لبنان أيام عزّه، فتتذكّر رجالاً من أهل الفكر والسياسة والصحافة، وما كان بينهم من أحداث وروايات، بعضها جدّي وأغلبها طريف، يَرويها رصيفنا بطريقة غاية في الدقّة، تشعر معه أنك تعيش هذه الحوادث والقصص. رواياتٌ لا تُعدّ ولا تُحصى، أروي بعضها كما سمعته. من هذه، أن الراحل منح الصلح، كان مرة في جلسة مع الصحافي الراحل ميشال أبو جودة، صاحب العمود المشهور في الصفحة الأولى من “النهار”. في أثناء الجلسة، سأل أبو جودة الصلح تقييمه لمجريات الأمور، وكانت السنة 1982، والجيش الإسرائيلي قد وصل إلى مشارف نهر الأوّلي في جنوب لبنان. أجابه الصلح باستياء: “لو أراد الإسرائيليون 40 ميلاً من لبنان، فسأعطيهم 40 ميلاً إضافية”. إستغرب أبو جودة، ومَن كان معه من الحاضرين أن يُدلي الصلح بكلامٍ من هذا النوع، وهو العروبي الأصيل، لكن مُنَح بك، كما كان أصحابه يُطلقون عليه تحبّباً، لم يقل كلامه بفعل الخيانة، بل تحسّراً وكُفراً بعروبةٍ عَمل لها وآمن بها كل حياته، فإذا هو قد رآها وقد تلطّخت بأقدام الإسرائيليين، الذين وصلت دباباتهم إلى قلب بيروت.

سأتوقّف عن سرد ما سمعت من القصص الجدّية وهي كثيرة، لأننا في زمن نحتاج فيه أن نَروي ما هو طريف ومُسَلّ، ولا علاقة له بالسياسة وأهلها، ولا بجائحة كورونا ونوائبها. من ذلك، ما يعود إلى سبعينات القرن الماضي، وفحواه أن ميشال أبو جودة، سأل مرة الأمين العام الراحل للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي، ماذا سيفعل الحزب إذا تسلّم السلطة في لبنان، وهل سيُرشّح مارونياً لرئاسة الجمهورية. أجاب حاوي: “نعم، نولي مارونياً”. عندها قال له الصحافي العتيق:” لماذا تغلبون أنفسكم إذن، وتُقيمون الدنيا وتقعدونها، ورئيس البلاد الحالي هو ماروني”!

من ذلك أيضاً أن أحد السياح العرب وفد ذات مرة إلى بيروت، ونزل في أحد الفنادق المتواضعة، وأراد وهو في الهزيع الأخير من الليل أن يقضي حاجته، ولم يكن في الغرفة مرحاض، فخرج من الغرفة إلى الرواق، يبحث عن مرحاض فلم يجد، وكانت الكهرباء مقطوعة، فخانه الصبر والتجلّد، ولم يجد طريقةً لقضاء حاجته إلّا على جريدة كان اشتراها، ثم لفّها ووضعها على الأرض. في الصباح حين أفاق من نومه، وضع الجريدة على الفراش وغطّاها باللحاف، ثم استحم ووضّب حقيبته ونزل إلى بهو الفندق ليدفع فاتورة الإقامة، وفيما هو يهمّ بالخروج، جاء مدير الفندق وسأله إذا كان نسي شيئاً في الغرفة، فأجاب بالنفي. ثم سأله: هل أنت متأكد من ذلك يا أستاذ؟ أجابه: نعم أنا متأكد. عندها سأله المدير: ما ذاك الذي تركته تحت اللحاف إذن؟! بُغت الضيف، لكنه استرد عزيمته وقال للمدير مُتسائلاً: “وهل أنت من الذين يحرصون على الجرائد، ويصدقون ما تنقله من أخبار؟”!

من الحكايات ما هو حديث خاص، ومن ملح الرجال كما يُقال، يقصّها عبيد بطريقة لا تملك معها إلا أن تضحك. من هذا الباب أن المحامي المعروف بهيج تقي الدين، والمحامي الأخر المعروف نصري المعلوف، كانا مرة في أحد المقاهي، فمرّت أمامهما فتاة مغناج تسير بخفّةٍ ودلال، فقال تقي الدين لصديقه المعلوف: “جرّب حظّك، يظهر أنها رخوة”. فأجابه المعلوف: “لا تتأمل كثيراً، الرخوة يُقابلها الرخو!”. في هذا الباب أيضاً أن الوزير ابراهيم حلاوي، وهو أحد الجلساء الدائمين في صالون صديقنا ميلان كما سبق الكلام، كان مرة، مُسافراً مع الرئيسين شارل حلو وتقي الدين الصلح إلى المغرب للتعزية برحيل الأمير عبد الله، شقيق الملك الحسن الثاني، وأثناء توقّفهما في مطار باريس، رأى الوزير حلاوي فتاة حلوة، فأخذ ينظر إليها، فانتبه إليه الرئيس الصلح، وقال للرئيس حلو: أنظر إلى الوزير حلاوي كيف يُبصبِص، وبعد هنيهة أردف قائلاً بدعابته المعهودة: “بيني وبينك يا فخامة الرئيس، معاليه لا يقدر إلّا على البصبصة”!

من هذه المرويات كذلك، أن منح الصلح كان مرة في مقهى “سيتي كافيه” في بيروت مع شلّة من الأصدقاء، منهم الصحافي ذوالفقار قبيسي، واتفق أن رأى هذا الأخير فتاة حلوة وأحبّ أن يتعرّف إليها، فسمحت له بالجلوس إلى طاولتها لبعض الوقت، ولما عاد إلى جلسائه سأله منح بك إذا كانت الريح سارت كما تشتهي السفن، أجاب قبيسي: “سارت على يرام، وسوف نلتقي قريباً”، عندها أجابه الصلح ملمحاً: ” حذار إن هي أخذت الأمور بجدية ونوت أن تهم”!

ومن الروايات في هذا الباب، أن الإعلامي الراحل الحاج زهير السعداوي، الذي كان يلقب بشيخ الندامى، أو ظريف المقاهي، خصوصاً مقهى “دولتشي فيتا”، كان قد تعلّق في أواخر أيامه بلعبة “فليبرز”، وصار يمارسها كل يوم. هذه اللعبة لِمَن لا يعرفها، هي على شكل طاولة مستطيلة، في داخلها كرة معدنية يقذفها اللاعب، وتجعله يهتز يميناً وشمالاً، تحسّباً من أن تقع الطابة في فوهة من الفوهات. شغف الحاج زهير بهذه اللعبة إلى حدٍّ جعلته يُهمل أصحابه، إلى أن جاء يومٌ سمع فيه أنها بما تُحدثه من الإهتزاز في جسم اللاعب، تخرب القدرات الجنسية لديه، فتوجّس الحاج وتوقّف عن اللعب، وعاد إلى الجلوس مع عشرائه في المقاهي، فسأله أحدهم عن أسباب غيبته، فأخبره أن السبب هو لعبة “الفليبرز” الملعونة، ثم عاد وسأله عن سبب توقفه عن ممارستها، فأجاب بأنه لا يريد أن يُخرب “الماكنة”. تعجّب السائل وسأله من جديد: “كيف لماكنة الفليبرز أن تخرب؟”. أجاب الحاج زهير: “لا يا رجل، عنيت ماكنتي أنا”!

*****

من الحكايات الطريفة ما له علاقة بالصحافيين والهدايا، وفحوى إحداها أن أحد الأثرياء أبدى مرة إعجابه بما يكتبه الصحافي الراحل المخضرم مارك رياشي من مقالات، وأحب أن يكافئه، حسب ما كان شائعاً ذلك الزمان من عادات، بين الموسرين وبعض الصحافيين (هل يا ترى تغيّرت؟!)، وسأله كيف يحب أن تكون المكافأة فأجابه رياشي: “هوِّن عليك سيدي الكريم، من يوم ما اخترعوا الفلوس ما عاد أحد يحتار”!  وما دام الحديث عن الأثرياء والإعلاميين، هناك قصة رواها لنا عبيد عن الصحافي الراحل سعيد فريحة.  كان فريحة في إحدى الليالي سهراناً مع شلة من أصحابه، منهم الصحافيان جورج ابراهيم الخوري وسمير عطالله في بار “كهف الملوك” أو “كاف دي روا” بمنطقة الزيتونة في بيروت، واتفق ان كان في الحانة رجل ممتلئ الجسم ذو شاربين كثيفين، تبدو عليه مخايل النعمة. بدأ هذا الرجل ينظر إلى سعيد فريحة، وفريحة ينظر إليه، وبعد مضي قليل من الوقت، سأل فريحة مدير الحانة عن هوية الرجل، فقيل له إنه أحد رجال الأعمال السوريين الأثرياء، واسمه أحمد شيخ الأرض، ثم سأل هذا الأخير نادلاً في الحانة، عن هوية ذاك الرجل، مشيراً إلى سعيد فريحة نفسه، فقال له إنه صاحب مجلة “الصياد”، ورئيس تحريرها، وصاحب المقال المعروف المسمى بالجعبة، فطلب شيخ الأرض من الفور، من اشترى له عدداً من “الصياد”، وقرأ فيها مقالاً لفريحة أورد فيه ما جاء في المأثور، “أيسر على جمل أن يلج ثقب الإبرة، من أن يدخل غني ملكوت السماوات”. لم يستسغ شيخ الأرض هذا الكلام بالطبع، وهو الغني الموفور وجاهة ومالاً، فذهب إلى حيث كان فريحة جالساً، وسأله وهو يضع إصبعه على الجملة ذاتها من المقال وقال له: “هل أنت مقتنع بما كتبت هنا، وبأن الغني لا يدخل ملكوت السماوات؟”. أجاب صاحب الجعبة مازحاً كمن ينوي الزكزكة: “نعم أنا مقتنع”، عندها قال له شيخ الأرض: “أحب أن أقول لك إن قناعتك هذه، وكعب حذائي سيّان”!

كثيرة كانت حكايات المجلس التي سمعتها في أثناء إقامتي في بيروت التي امتدت أشهراً، كنت خلالها أتردّد إلى مجلس صديقنا ميلان، لكن حين ألمّت بنا كورونا انفرط العقد، وذهب كل واحد منا في طريقه، أو بتعبير أدق، إلى بيته سجيناً، فيما عدت أنا إلى أوروبا، مُعلِّلاً النفس بأن ينحسر شبح الجائحة المخيفة عنّا وعن البشرية، لنستعيد تلك الجلسات المُمتعة، وما كان لنا من حياة ومن سعادة لم نكن نقدرها حق التقدير، وحسبناها دوماً دائمة، فإذا مصائب كورونا تُلزمنا بيوتنا وتُشعرنا بالندم، وتُذكّرنا بقول النبي العربي: “واخشوشنوا فإن النعم لا تدوم”!

  • رؤوف قبيسي هو كاتب وصحافي لبناني.
  • يُنشَر هذا المقال في الوقت نفسه في صحيفة “النهار” اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى