سؤال واشنطن: هل الصين وروسيا وراء “العبث” في الشرق الأوسط

محمّد قوّاص*

يجري نقاشٌ داخل أروقة القرار في الولايات المتحدة بشأنِ التحدّيات التي تُواجِهُ الأمنَ الاستراتيجي الأميركي جرّاءَ الحربِ في غزّة وما خلّفته من اشتعالِ “جبهاتٍ” في الشرق الأوسط. وترى آراءٌ داخل وزارة الدفاع ال”بنتاغون” أنَّ الصين وروسيا مُستَفيدتان من التحدّيات التي تُواجهها القوات الأميركية في المنطقة، فيما يُرَجِّحُ بعض وجهات النظر أنهما تُشَجِّعان ذلك وتقفان وراءه.

ويقولُ مصدرٌ ديبلوماسي في لندن إنَّ مُداولاتٍ جرت أخيرًا بين أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية بشأن دقّة المعلومات حول احتمال وقوف موسكو وبكين وراء الهجمات التي تعرّضت لها مواقع عسكرية أميركية في العراق وسوريا، وتلك التي تُهدِّدُ الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.

وفيما لا يملك البلدان مُعطَياتٍ حِسّية دقيقة حول تورّطٍ مباشر للدولتين العظميين، يجري تفحّص احتمال أن تكون المقاربة الإيرانية الحالية في التعامل مع حرب غزّة تجري بالتنسيق السياسي الكامل مع الحليفتين، الصين وروسيا، لجهة مستويات الردّ وجغرافيته وتوقيته.

ووفق مصادر أميركية فإنَّ الولايات المتحدة تَشتَبِهُ باعتمادِ “وحدة الساحات”، التي ذاعَ صيتها في وصف العلاقة بين الفصائل الإقليمية التابعة لإيران، على ما يربط الصين وروسيا وإيران من مصالح مشتركة، وبشكلٍ مُكثّف هذه الأيام، في تقويض القوى العسكرية الأميركية في المنطقة وإنهاكها.

وقد نقلت مجلة نيوزويك الأميركية عن مصادر أكاديمية أميركية أنَّ الصين مستفيدة من أزمة البحر الأحمر ودورها في النيل من مكانة وتفوّق الولايات المتحدة. وكان لافتًا أنَّ السفنَ التجارية الصينية استمرّت بالعبور في البحر الأحمر وباب المندب، واثقةً بالحالة الآمنة التي تتمتّع بها وتجعلها بعيدة من أيِّ أخطارِ نيران الحوثيين من اليمن.

كما إنَّ بكين، شأنها في ذلك شأن دول عربية (خصوصًا تلك على البحر الأحمر) وغربية (إيطاليا، إسبانيا، فرنسا وغيرها)، لم تستجب لدعوات الولايات المتحدة بتشكيل قوةٍ دولية مشتركة (حارس الازدهار) للسهر على أمن البحر الأحمر، ما يتيح لها في الوقت عينه تحريك قطعها البحرية العسكرية في هذه المنطقة بشكلٍ مستقل يؤكد حقّ بكين وقدرتها على المناورة في منطقةٍ استراتيجية دولية شأنها شأن الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.

وقد كشفَ نقاشٌ لخبراءٍ سياسيين في إحدى القنوات الفرنسية عن أن تقييمًا يجري داخل حلف شمالي الأطلسي لدراسةِ مدى استفادة روسيا والصين مما وصفوه بـ”العبث الأمني” الذي يجري في الشرق الأوسط، لجهة إشغال الولايات المتحدة أساسًا وحلفائها آليًا بجهودٍ عسكرية وأمنية وسياسية استراتيجية تُخفّفُ الضغوط الغربية عن المجالات الاستراتيجية الروسية-الصينية.

ويرى خبراءٌ في الشؤون الصينية أنَّ بكين تُراقبُ باهتمامٍ انخراطَ الولايات المتحدة في الأزمة المتعدّدة الجبهات في الشرق الأوسط لما يُمكِنُ أن تؤثّرَ مآلاتها على موازين القوى في الصراع مع الولايات المتحدة، لا سيما وأنَّ موقع “بوليتيكو” تحدّثَ عن إعدادِ إدارة بايدن لخططٍ عسكرية تحسّبًا لتحوّل حرب غرة إلى صراعٍ إقليمي واسع النطاق. ولاحظ هؤلاء أنَّ بكين لم تقم بجهدٍ جدّي ومثابر لإنهاء الحرب في غزّة ولم تسعَ لتشكيلِ تيارٍ دوليٍّ ضاغطٍ في هذا الصدد، على الرُغم من إمكانات الأمر بالنظر إلى تصاعد المناهضة الدولية لهذه الحرب لا سيما لدى دول الـ”بريكس” التي تملك بكين داخلها المونة والنفوذ.

واعتبرَ هؤلاء أنَّ للصين مصلحةً في الحفاظ على مستوى الإرباك الراهن الأميركي طالما أنَّ مستوى العنف الحالي ما زال مضبوطًا ومُنضَبطًا، حتى من قبل إيران و”محورها”، ولم يُسَبِّب أيَّ أضرارٍ لمصالح بكين ولم ينل من نفوذها في المنطقة وعلاقاتها مع بلدانها.

ولا يُمكنُ لأيِّ مُراقبٍ للحرب في أوكرانيا إلّا أن يستنتجَ مدى تأثير موجة العنف الحالية في الشرق الأوسط على مستوى “حصرية” الاهتمام الأميركي-الغربي بأوكرانيا. وإذا ما كان الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي يخشى من ترددٍ أميركي-أوروبي في الحفاظ على مستوى الدعم العسكري والمالي لبلاده، فإنَّ عرقلة الكونغرس الأميركي لخطط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بهذا الصدد، وتصاعد أصواتٍ علنية في أوروبا تُشكّك في نجاعة الإنفاق لصالح كييف، يكشف مدى مساهمة أزمة الشرق الأوسط في تعظيم هذا المنحى.

وتقرُّ أوساطٌ ديبلوماسية في باريس أنَّ روسيا، التي اكتفت بمواقف نظرية بشأن الحرب في غزّة، تستنتجُ تآكلا نسبيًا للاجماع الغربي حول الدعمِ المُطلَق لأوكرانيا، وأنَّ موسكو ترى أن “ورشة” الشرق الأوسط تُعزّزُ رؤية روسيا البوتينية للعالم ووجهة نظر موسكو بشأنِ أسباب “العملية الخاصة” التي تخوضها في أوكرانيا منذ 24 شباط (فبراير) 2022. ويعتبرُ هؤلاء أنَّ انشغالَ الداخل الأميركي بالحرب في غزة دعمًا لإسرائيل من جهة، وجُهدًا ديبلوماسيًا مع كلِّ بلدان المنطقة لعدم توسعتها من جهةٍ ثانية، ونشرًا مُستَجِدًّا لقواها العسكرية من جهةٍ ثالثة، يشتت جهود واشنطن، ما يوهن خططها لـ “هزيمة روسيا” في أوكرانيا ولا يجعلها أولوية داهمة.

وتُنَبّه أوساطٌ سياسية في واشنطن أنَّ الإدارة الأميركية واعيةٌ للبُعدَين الصيني والروسي في ما يجري في الشرق الأوسط اللذين قد يقفان وراء البُعدِ الإيراني. وتُضيفُ أنَّ واشنطن تسعى لإدارة التحدّيات الشرق أوسطية من خلال انتهاجِ مُقارَبةٍ عسكرية جراحية موضعية دقيقة في الردّ على جماعة الحوثي في اليمن ومواقع الفصائل الولائية في العراق وسوريا من جهة، والعمل على الدفع بخريطةِ طريقٍ لإنهاءِ الحرب في غزّة وما تُسبّبه من أخطارٍ على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة من جهةٍ أخرى.

وتُراقِبُ واشنطن تصاعدًا في لهجةِ بغداد على المستوى الحكومي لجهة “عدم التراجُعِ عن إنهاءِ وجود التحالف الدولي في العراق” وفق كلمات رئيس الحكومة محمد شياع السوداني. ويعني ذلك إخلاء الولايات المتحدة لدولةٍ استراتيجية لصالح إيران والصين وروسيا. وسيؤثّر سحب القوات الأميركية من هذا البلد في أمن وسلامة القوات الأميركية في سوريا، ما يمكن أن يضغط لدفع إدارة بايدن إلى سحب تلك القوات على منوال ما كان يطالب به الرئيس السابق دونالد ترامب قبل ذلك.

وبغضِّ النظر عن الجدل بشأن مسؤولية مباشرة للصين وروسيا في تشجيع إيران على تحريك أذرعها في المنطقة ضد المصالح الأميركية، فإنَّ بكين وموسكو تجنيان كل يوم ثمار هذا التخبّط الأميركي ما يُعزّزُ موقعهما في المنطقة كما على الرقعة الدولية.

ووفق هذا التحليل بدأ يتعزز نزوعٌ في واشنطن، وإن لم تقرّ بذلك الإدارة علنًا، بأنَّ الحرب الإسرائيلية في غزّة تقف وراء تفجير جبهات المنطقة وتصاعد العداء الشعبي (والرسمي) ضد الولايات المتحدة في كل المنطقة وتُوَفّرُ للحكم في بغداد مسوغات دفع أميركا خارج “المربع العراق”.

ويتحدّث بعضُ الأنباء عن دفع واشنطن جهودها الديبلوماسية بشكلٍ مكثّف وإرسال مبعوثيها (في مقدمهم وزير الخارجية انتوني بلينكن والمستشار الرئاسي آموس هوكستاين هذه الأيام) إلى المنطقة للتعجيل بإيجاد مخرجٍ لهذه الحرب بصفتها مصلحة أميركية استراتيجية عاجلة بامتياز. غير أنَّ وجهة نظر أخرى داخل الإدارة في واشنطن ترى أن تعزير تفوّق الولايات المتحدة على خصومها في العالم يمرّ أساسًا من خلال دعم إسرائيل والحفاظ على مناعتها وتفوّقها. وهنا تكمن نقطة التوازن بين دعم حرب إسرائيل في غزّة وضبط شططها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى