المجتمع المدني في لبنان هو الوحيد الذي يمتلك مفتاح إعادة التأهيل الوطني

بعدما أثبتت النخبة الحاكمة في لبنان فشلها وفسادها لم يبق لبلد الأرز سوى مجتمعه المدني الذي أثبت رغم ضعفه نسبياً قدرة على التأثير، ولكن يلزمه المساعدة الخارجية كي يستطيع الوصول إلى الإصلاح المنشود والتغيير المطلوب لإنقاذ البلاد.

الإنتخابات الجامعية الأخيرة: فازت فيها لوائح المجتمع المدني

بقلم بلال صعب*

إنه أمرٌ لا يُصَدَّق كيف يمُكن لبلدٍ صغير جداً مثل لبنان أن يُعاني من هذا العدد الهائل من المشاكل الكبيرة والمُتوَطِّنة. كما أنه لا يُمكن فَهم كيف استطاع الصمود وعاش هذا الوقت الطويل على الرغم من تلك المشاكل.

لقد شهد لبنان كل شيء طوال وجوده: حربٌ أهلية، إرهاب، غزو، إحتلال، تدخّل عسكري وترهيبٌ سياسي. سمّها ما شئت. ومع ذلك، فقد تمكّن بطريقة ما من الصمود والإستمرار، بل وحتى الإزدهار في بعض الأحيان.

الآن، يبدو أن هذا الإحساس بالمرونة والإبداع الذي اشتهر به اللبنانيون قد تآكل أخيراً. وصلت البلاد إلى مستوى من الإفلاس السياسي والخراب الإقتصادي لم يسبق له مثيل في تاريخها الحديث.

أسبابُ ذلك عديدة، لكنها ليست أكثر إلحاحاً من الترتيبات المُعيبة لتقاسم السلطة في البلاد وفشل النُخَب الحاكمة في سَنّ وتنفيذ الإصلاحات السياسية والإقتصادية اللازمة.

كان من الممكن أن ينهار لبنان منذ سنوات، مثلما حدث بشكل كارثي من 1975 إلى 1990. لكن في كل مرة كان يُغازل الإنهيار، كان يأتي أحدهم لإنقاذه. لقد تدخّل الأميركيون والأوروبيون والعرب جميعاً بشكل مُنفصل أو جماعي في مراحل مختلفة من التاريخ اللبناني لتجنّب الأسوأ في بيروت.

لكن هذه المرة، قد لا تكون المساعدة في الطريق. دول الخليج العربية لها أولويات أخرى، وباريس سئمت وضاقت ذرعاً من وعود الإصلاح الفارغة من السياسيين اللبنانيين. والأميركيون يشاركون الفرنسيين مخاوفهم، لكنهم لم يتخلّوا عن هذا البلد بعد.

لا تزال هناك بعض النوايا الحسنة لدى الولايات المتحدة تجاه لبنان. أيضاً، هناك قلقٌ كبير بشأن احتمال قيام دولة فاشلة أخرى في الشرق الأوسط يُمكن أن تستفيد منها روسيا وإيران والإرهابيون السنّة.

المشكلة هي أن سياسة واشنطن تجاه لبنان ليست لها أرجل. بعبارة أخرى، ليس لديها جمهورٌ سياسي محلّي إصلاحي للعمل معه والمساعدة على مواجهة التحدّيات العميقة التي تواجه البلاد.

يُمكن للولايات المتحدة أن تستمر في القول أنها تدعم الإصلاح السياسي والإقتصادي في لبنان، لكن النُخب الطائفية عينها التي حكمت البلاد لعقود أوضحت أنها ليست مهتمة حتى بالتغيير عن بعد.

حقيقة أن انفجاراً شبيهاً بانفجار نووي، نَجَمَ عن مستودعٍ مليءٍ بالمواد المتفجرة في مرفأ بيروت، هدم أجزاء من العاصمة وقتل 220 شخصاً في 4 آب (أغسطس) من العام الفائت ولم يُعاقَب عليه أحد، يُخبرك بكل ما تحتاج إلى معرفته حول طبيعة السياسة اللبنانية المُهترِئة والفاسدة الراسخة.

قبل أكثر من 15 عاماً، كانت أولوية واشنطن في لبنان هي طرد الجيش السوري من البلاد. ونجحت بشكل رئيس لأن مصالح الولايات المتحدة تقاربت وتوافقت مع مصالح قوة سياسية محلية قادت انتفاضة شعبية ضد هيمنة النظام السوري البغيض. كان المسؤولون الأميركيون يعرفون طوال الوقت أن ما يسمى ب”تحالف 14 آذار” فاسدٌ للغاية، لكن موقفه المُناهض لسوريا في ذلك الوقت كان هو الأكثر أهمية.

الآن، المعركة الوجودية ليست حول التأثير السوري الخبيث. يتعلّق الأمر بإعادة التأهيل الوطني. وهذه الزمرة نفسها التي دعت ذات يوم إلى التحرّر من الإملاءات السورية لا يُمكن الإعتماد عليها اليوم لأنها فاسدة كما كانت دائماً. كما أن غالبية أعضائها تستوعب وتتكيَّف مع “حزب الله” لحماية سلطاتها السياسية ومصالحها المالية.

الجمهور الوحيد الذي يريد حقاً بداية جديدة في لبنان هو المجتمع المدني في البلاد. أعضاؤه هم الذين ضاقوا ذرعاً بالنظام الطائفي. هم الوكلاء الحقيقيون والوحيدون للتغيير في لبنان.

المشكلة – وليست صغيرة – أن المجتمع المدني اللبناني ضعيفٌ جزئياً بسبب الفوضى، ولكن أيضاً لأن الساحة كانت مُكَدَّسةً ضده لفترة طويلة. ومع ذلك، يمكن إصلاحه وإنعاشه. إنه بحاجة إلى المساعدة، وواشنطن لها كل مصلحة في توفيرها.

قد يُحذّر المُشكّكون من أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تكون في مجال احتضان المجتمع المدني اللبناني لأن القيام بذلك سيؤدي إلى شلّه إلى الأبد. تقول الحجة إن ذلك قد يكون بمثابة قبلة الموت. كانت إدارة أوباما حريصة بشكل خاص على عدم دعم المتظاهرين الإيرانيين السلميين في العام 2009 عندما ثاروا ضد الملالي خوفًا من تلويثهم. ولكن يتفق أهل الخبرة على أن تلك المناسبة كانت فرصة جيدة ضيّعتها واشنطن.

دعونا لا نرتكب الخطأ عينه في لبنان. لطالما كانت البلاد مساحةً مُتنازَعاً عليها. الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، لا يتورّع عن التباهي على التلفزيون الوطني بالمساعدة العسكرية والمالية السخية التي يتلقاها حزبه من إيران.

نحن لا نتحدث عن انتقاء طرفٍ في حربٍ أهلية هنا، كما فعلنا بتهوّر في أوائل ثمانينات القرن الفائت – وهي سياسة كلفت الولايات المتحدة أرواح مئات الديبلوماسيين والجنود الأميركيين في تفجيرات إرهابية متعددة في بيروت.

نحن نتحدث عن دعم المدنيين المُسالمين والضعفاء والعلمانيين الذين يتوقون إلى الكرامة والعدالة والمُساءلة والفُرَص الإقتصادية. بالتأكيد يُمكننا أن نقف وراء تلك المُثُل العليا. هذا بالضبط ما فعله الأميركيون في وسط وشرق أوروبا خلال الحرب الباردة، ما ساعدهم على مواجهة النفوذ السوفياتي في تلك المناطق.

من الغباء الإستمرار في الأمل في أن تقوم النُخَب السياسية اللبنانية بالإصلاح الذاتي وبالتالي التدمير الذاتي. هذا لن يحدث. الطريق الوحيدة لمساعدة لبنان على إعادة بناء نفسه هي مجتمعه المدني.

تُحرز الحركات الطلابية والجماعات المدنية المستقلة تقدّماً بالفعل، وقد هزمت أخيراً خصومها الطائفيين في الإنتخابات الجامعية. يُمكن لواشنطن تضخيم نجاحهم بذكاء من خلال زيادة فعالية مساعدتها الإقتصادية للبلد.

إحدى الطرق للقيام بذلك، والتي تعلّمتها من صديقي جيفري فيلتمان، السفير الأميركي السابق في لبنان، هي وضع بعض هذه المساعدة في مؤسسة لبنانية-أميركية، يكون لها مجلس إدارة مُكَوَّناً من لبنانيين ولبنانيين-أميركيين ونجومٍ من المجتمع المدني الأميركي. يُمكن للمؤسسة تقديم منح لمنظمات المجتمع المدني اللبنانية. ولهذه المنظمات أن تقرر ما إذا كانت ستتقدم بطلبٍ للحصول على منح أم لا. على عكس المساعدة الإيرانية ل”حزب الله”، ستكون كلها شفافة.

قد لا يهتم بعض اللبنانيين بمساعدة الولايات المتحدة، وهو أمرٌ جيد ومفهوم تماماً، ولكن نظراً إلى خطورة الأزمة المالية في البلاد، أعتقد أن الكثيرين سيكونون أكثر انفتاحاً عليها.

حتى الآن، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على “حزب الله” وبعض حلفائه المسيحيين اللبنانيين. ومع ذلك، فقد تجاهلت تماماً بقية المؤسسات السياسية الفاسدة بنفس القدر. وهذا أضرّ بمصداقية أميركا بشكل كبير، على الرغم من المساعدات الإنسانية التي قدمتها إثر انفجار الميناء ودعمها للجيش اللبناني.

يعتمد نهج الولايات المتحدة بالكامل في لبنان على كسب ثقة الشعب اللبناني وخصوصاً المجتمع المدني في البلاد. إن اللحظة التي يكتسب فيها هذا المجتمع الثقة في السياسة الأميركية هي عندما تتمكّن أميركا من مشاركة أعضائه في مساعدة لبنان على تحقيق إمكاناته غير المُحقّقة.

تُعتَبر الانتخابات البرلمانية المتوقع إجراؤها في العام 2022 لحظة فاصلة. من خلال تمكين المجتمع المدني اللبناني الآن، يمكن للأميركيين تحسين فرصه للدخول إلى الحكومة بكامل قوته في العام المقبل وقيادة عملية تغيير سياسي شامل. لدينا القليل من الوقت لنضيّعه.

  • بلال صعب هو زميل كبير ومدير برنامج الدفاع والأمن في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، وقد عمل من آب (أغسطس) 2018 إلى أيلول (سبتمبر) 2019 في مكتب وكيل وزارة الدفاع الأميركية للسياسة كمستشار أول للتعاون الأمني في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى