بوتين يَختَبِرُ تَصمِيمَ “الناتو” على حدودِ فنلندا

على النقيض من الحرب في الشرق الأوسط، تظل التوترات خارج ساحات القتال في أوكرانيا حتى الآن من نوع “الحرب الهجينة”. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الحدود الغربية لأوكرانيا تمثل بداية دخول أراضي “الناتو”، ما يمثل خطرًا هائلًا على بوتين إذا اختار انتهاكها.

الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبيرغ: “الروس يستخدمون أنواعًا مختلفة من العمليات السرية لتقويض ديموقراطياتنا”.

فريدا غيتيس*

أحدُ الأهداف الرئيسة لإدارة بايدن، في الوقت الذي تدعم حَليفَين مُنخَرِطين في حربَين شرستين، هو منع انتشار الصراعَين. كان البيت الأبيض ناجحًا إلى حدٍّ كبير حتى الآن، حيث لم تتحوّل الحرب بين أوكرانيا وروسيا ولا الحرب بين إسرائيل و”حماس” إلى حرائق إقليمية. لكن المخاطر لم تَنحَسِر على أيٍّ من الجبهتَين.

حظي تبادل إطلاق النار والاستفزازات الأخرى في المنطقة المُحيطة بإسرائيل بقدرٍ كبير من الاهتمام في الوقت الذي تحاول الإدارة الأميركية تحقيق التوازن بين هدفها المُتمثّل في منعِ نشوبِ حربٍ أوسع مع إظهار القوة العسكرية اللازمة لردع المزيد من الهجمات. فقد أسقطت القوات البحرية الأميركية صواريخ وطائرات مُسَيَّرة أطلقتها جماعة الحوثي المدعومة من إيران في اليمن، وكان “حزب الله” وإسرائيل بدورهما يطلقان النار على بعضهما البعض عبر الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. كما تعرّضت القوات الأميركية للهجوم أكثر من 70 مرة في المنطقة، حيث تحدّى وكلاء إيران في سوريا والعراق وأماكن أخرى جهود الرئيس الأميركي جو بايدن لاحتواء الصراع.

في هذه الأثناء، تتصاعد التوترات على طول حدود روسيا مع العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. ويبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي استفادت حربه في أوكرانيا من تحوّلِ الأضواء العالمية فجأةً نحو الأزمة في الشرق الأوسط، يستغلّ الفرصة للانخراط في استفزازاتٍ ضد بعض جيران روسيا.

في الآونة الأخيرة، انتقدَ أحد أحدث أعضاء “الناتو” الكرملين، مُتَّهمًا روسيا بشنِّ شكلٍ من أشكال “الحرب الهجينة” في محاولةٍ لزعزعة استقراره.

في أواخر الشهر الفائت، أعلن رئيس الوزراء الفنلندي بيتري أوربو أنَّ هلسنكي ستُغلِقُ على الفور آخرَ مَعبَرٍ حدودي ظلَّ مفتوحًا بين البلدين، وألقى باللوم على روسيا في الارتفاع المفاجئ في عدد المهاجرين الذي وصفه أوربو بأنه جُزءٌ من مؤامرة مُدَبَّرة من قبل الكرملين. وأضاف: “لدى فنلندا أسبابٌ قوية للاشتباه في أن دخول “المهاجرين” مُنَظَّمٌ من قبل دولةٍ أجنبية”، مُضيفًا أن “روسيا تسببت في هذا الوضع ويمكنها أيضًا إيقافه”.

وسرعان ما هبَّ حلفاء فنلندا الجُدُد في حلف شمال الأطلسي للدفاع عنها. أعلنت بولندا، التي واجهت بالمثل هجرةً “مُسلَّحة” من جانب بيلاروسيا في العام 2021، أنها تُخطّطُ لإرسال مستشارين عسكريين إلى فنلندا ردًا على “طلبٍ رسمي لدعم الحلفاء في مواجهة هجوم هجين على الحدود الفنلندية”. وردًا على ذلك، أصدرت روسيا تحذيرًا شديد اللهجة ضد أي عمليات نشر. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: “يجب على الفنلنديين أن يدركوا بوضوح أن هذا سيُشَكّلُ تهديدًا لنا”.

في الأسابيع التي سبقت قرار هلسنكي بإغلاق معبر راجا-جوزيبي، ارتفعَ عدد طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى الموقع المُتَجَمِّد مع حلول فصل الشتاء في القطب الشمالي بشكلٍ كبير بالمعايير التاريخية. وصل حوالي 1,000 مهاجر بدون تأشيراتٍ صالحة إلى الحدود الفنلندية-الروسية منذ آب (أغسطس)، وفقًا للسلطات الفنلندية، 90 في المئة منهم وصل في الجُزء الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)، قبل أن تُقرّرَ الحكومة إغلاق المعبر الحدودي لفترةِ تحذيرٍ مدّتها أسبوعين.

جاء طالبو اللجوء من سوريا واليمن وإريتريا وإثيوبيا وأفغانستان والعراق والصومال، من بين دول أخرى. كانوا يرتدون ملابس خفيفة واهية لدرجات حرارة شديدة البرودة.

من جهتها، تنفي روسيا أنها وراء موجة المهاجرين، لكن التاريخ الحديث يُشير إلى إجابتها: “مَن، أنا؟ لا لا لا”، ردُّ فعلٍ مُخادع.

في العام 2021، أثار حليف بوتين المُحاصَر، الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، أزمةً مع الاتحاد الأوروبي من خلال نقل عشرات الآلاف من المهاجرين من مناطق الحرب في الشرق الأوسط إلى الحدود مع بولندا. وأغلقت وارسو، التي اتَّهَمت بيلاروسيا وروسيا باستغلال المهاجرين لزعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي، الحدود، وحاصرت طالبي اللجوء المُرتعشين على طول الحدود الشديدة البرودة. ونشرت روسيا قوات خاصة عسكرية في المنطقة، ما أدى إلى زيادة التوترات مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) مُنذرةً بالحرب مع أوكرانيا التي شنتها بعد بضعة أشهر.

وفنلندا ليست الدولة الوحيدة التي تتهم روسيا باللجوء مرة أخرى إلى هذه التكتيكات. في حديثه في قمةٍ إقليمية قبل أيام قليلة من قرار فنلندا بإغلاق المعبر الحدودي، ألقى وزير الدفاع الإستوني، هانو بيفكور، باللوم على روسيا في عملية “نسّقتها الدولة بالكامل” والتي جلبت أيضًا أعدادًا كبيرة من المهاجرين إلى حدودها. واتهمت لاتفيا أيضًا روسيا بنقل المهاجرين إلى حدودهما المشتركة.

وقبل انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي هذا الربيع نتيجةً للغزو الروسي لأوكرانيا، قالت فنلندا إنها تتوقع أن تنتقمَ روسيا من خلال محاولةِ زعزعة استقرار البلاد. اعتقدَ القادة الفنلنديون أنهم قد يواجهون هجماتٍ إلكترونية أو استراتيجيات متعلّقة بالمهاجرين. وحذّرت روسيا صراحة من أنها ستتخذ “إجراءات مضادة”. وفي غضون أيام، بدأت فنلندا تتعرّضُ لهجماتٍ إلكترونية قالت السلطات إنَّ مصدرها روسيا.

يزعم بعض المراقبين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى إلى إثارة ردِّ فعلٍ من أجل تصوير “الناتو” بأنه تهديدٌ متزايد لموسكو، ما يخلق شعورًا بالقلق في الداخل لتبرير حرب طويلة الأمد.

هناك شيءٌ وحشي وقاسٍ بشكل فريد في استخدام طالبي اللجوء اليائسين كسلاحٍ في برد القطب الشمالي كتكتيكٍ جيوسياسي.

قالت وزيرة الخارجية الفنلندية إيلينا فالتونين إن البلادَ لديها دليل على أن الزيادة ليست نتيجة أزمة حقيقية، بل هي أزمة مُصطَنعة، حيث لا تسمح روسيا للمهاجرين بالوصول إلى الحدود فحسب، بل تساعد بنشاط على إيصالهم إلى هناك. ووصفت وزيرة الداخلية ماري رانتانين الأمر بأنه “مسألة تتعلق بالأمن القومي”.

كان رد فعل فنلندا القوي، على ما يبدو وكأنه تنمّرٌ روسي، سببًا في إظهار الثقة بالنفس التي تأتي من عضويتها الجديدة في أقوى تحالف عسكري في العالم. قد يجادل البعض بأن تصرفات روسيا المزعومة، والتوترات الناتجة عنها، هي أيضًا نتيجةً لتوسّع الناتو. ولكن في الواقع، نفذت روسيا عملياتٍ مماثلة في الماضي -كان آخرها في العام 2015- بهدف زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي مع وصول اللاجئين والمهاجرين المشحون سياسيًا من (ما يُسمّى) الجنوب العالمي.

يُراقِبُ “الناتو” الوضع عن كثب. قال الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبيرغ، إنَّ هذا مجرد أحدث مثال على قيام الكرملين بنشر عناصر من ترسانته الهجينة ضد الغرب. وأعلن: “لقد رأيناهم يستخدمون الطاقة، ورأيناهم يستخدمون الهجمات الإلكترونية، ورأيناهم يستخدمون أنواعًا مختلفة من العمليات السرية لتقويض ديموقراطياتنا”.

على النقيض من الحرب في الشرق الأوسط، تظل التوترات خارج ساحات القتال في أوكرانيا حتى الآن من نوع “الحرب الهجينة”. ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أن الحدود الغربية لأوكرانيا تُمثّلُ بداية دخول أراضي “الناتو”، ما يُمثّلُ خطرًا هائلًا على بوتين إذا اختار انتهاكها، كما حذر مرارًا وتكرارًا من أنه قد يفعل. لدى حلفاء “حماس” في إيران واليمن وسوريا ولبنان والعراق ترسيمٌ أقل وضوحًا لحدود الصراع، ما قد يجعل من الصعب على بايدن منعه من الانتشار.

  • فريدا غيتيس هي كاتبة وصحافية متخصصة في الشؤون الدولية. يمكنك متابعتها عبر تويتر (X) على: @fridaghitis.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى