المُعارضة في الجزائر بعد “الحراك”: قيودٌ وانقسامات
الجزائر عالقة بين مؤسسة غير مستقرة ومنقسمة داخليًا ومعارضة متواطئة ومنقسمة هي الأخرى، وهذا يمنع أي حوار جاد في المدى القصير.
زين العابدين غبولي*
في أوائل العام 2019، خرج ملايين الجزائريين إلى الشوارع للاحتجاج على محاولة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ترشيح نفسه لولاية خامسة. شكلت الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في 22 شباط (فبراير)، والمعروفة باسم “الحراك”، أهم حدث سياسي في الجزائر منذ إعلان الاستقلال في العام 1962. أدّت الاضطرابات غير المسبوقة إلى تجريد الواجهة المدنية لحكم بوتفليقة العسكري وأدّت إلى استقالته واعتقال أقرب أقربائه، بمن فيهم مسؤولين حكوميين ورجال أعمال. ومع ذلك، كان هذا هو الامتياز الوحيد الذي مُنِحَ للجزائريين منذ أن طالبوا القيادة العسكرية بإجراء انتخابات رئاسية كوسيلة دستورية لمعالجة الأزمة السياسية. في النهاية، وعلى الرغم من مقاومة العديد من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، تمكّن النظام الجزائري – وهو آلة معقدة تدور حول القيادة العسكرية وتعمل عبر مراكز قوى مُتعدّدة – من التغلب على أزمة 2019 من خلال مزيجٍ من القمعِ الانتقائي والإصلاحات القانونية، والانتخابات المُعَلَّبة والمُدارة بعناية.
مع اقترابنا من الذكرى الثالثة لانطلاق “الحراك”، من الضروري تقييم نتائج هذه الحركة. ربما لم يُحقّق المتظاهرون جميع أهدافهم، لكن تجربتهم استمرّت في تشكيل الرأي العام. علاوة على ذلك، من المستحيل فهم الوضع الراهن في الجزائر بدون النظر إلى واقع المعارضة السياسية. يمكن أن يُلقي تقييم الحركة الاحتجاجية في الجزائر الضوء على كلّ من قيودها وآفاق التحوّل الديموقراطي في الدولة الواقعة في شمال إفريقيا. قدمت الانتفاضة رؤى قيّمة حول دوافع وأهداف المؤسسة السياسية الجزائرية والمجتمع ككل، حتى لو ثبت أنها غير قادرة على ضمان انتقالٍ سلمي وديموقراطي للسلطة.
بينما من الواضح أن الحراك هو نتاجٌ للسياق المحلّي داخل الجزائر، فإن ما يكشف عنه يمكن أن يُوفّرَ أيضًا نموذجًا للمنطقة الأوسع. إن محاولات تغيير النظام قد شكّلت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ انتفاضات “الربيع العربي” التي بدأت في العام 2011. وقد يُنظَرُ إلى النهاية المريرة لـ”الحلم الجزائري” على أنها تجربة فاشلة أخرى أدّت إلى تفاقم مشاكل البلاد. إن السياسات الجزائرية مُعقّدة، فُرِضَت القيود على النشطاء من قبل المؤسسات القضائية والأمنية، لكن لا يمكن تجاهل انقسامات المعارضة وحساباتها الخاطئة. كان التلاشي التدريجي للاحتجاجات في العام 2020 وسط تصاعد الوباء نتيجةً للمناورات السياسية للنظام ونقاط الضعف التنظيمية والسياسية للمعارضة.
قيودٌ نظامية
كانت حركة الاحتجاج لعام 2019 هي الانتفاضة الأولى التي شملت شرائح كبيرة ومتنوعة من المجتمع. كان هذا الشعور بالوحدة الوطنية غائبًا في بلدٍ مزّقته الحربُ الأهلية الخلافية في التسعينات الفائتة، خصوصًا بين الأجهزة الأمنية والمتمرّدين الإسلاميين. عندما اندلعت حركة الحراك، حاول المسؤولون استخدام التاريخ لإخماد الاحتجاجات، مُذكّرين الجزائريين بالصدمة الجماعية للحرب ومُشيرين إلى تشابهها مع الصراعات الإقليمية الحالية. جعل عجز الرئيس السابق بوتفليقة عقب إصابته بالجلطة في العام 2013 منه “شبحًا استعراضيًّا” في خدمة الأوليغارشية الفاسدة. كان هذا الأمر مُهينًا جدًا للجماهير، وأسوأ بكثير في أذهانهم من التمرّد. وبقدر ما بدا هذا المسعى الديموقراطي واعدًا، واجه الفاعلون السياسيون والاجتماعيون في حركة الحراك مؤسسة قوية وصلبة وواسعة الحيلة. حشدت النخبة الحاكمة أدواتٍ مُختلفة لخنق المعارضة وتصميم حقبة ما بعد بوتفليقة من جانب واحد. ونتيجة لذلك، وقعت حركة الحراك ضحية للثورة المُضادة الهجينة وغير المتكافئة باستراتيجية القمع الانتقائي، بينما عزّز النظام واجهته المدنية.
رسم الجزائريون صورةً رائعة لنضالهم الديموقراطي خلال الأسابيع الأولى من “ثورة الابتسامات”. كانت الطبيعة السلمية للحركة، كما يتّضح من شعارها الشعبي “سلميّة”، مبدأً رئيسًا للحراك ودرسًا مُستفاد من الحرب الأهلية. لكن الجيش أدرك أيضًا أخطاءه الماضية واستفاد من روابطه الأخوية مع السكان، حيث تعهّد رئيس أركان الجيش آنذاك أحمد قايد صالح بحماية حياة الجزائريين. وهكذا عزّزت القيادة العسكرية موقفها الشعبي قبل اختيار حملة القمع المُستَهدِف. ولجأت السلطات إلى اعتقالات مُتقطّعة للنشطاء والصحافيين بتهم الإرهاب لشلّ حركة الاحتجاج. كما أدخلت الحكومة أنظمة جديدة كانت ظاهريًا لمكافحة خطاب الكراهية، لكنها في الواقع قيّدت حرية التعبير. من جهته، هدّد القضاء الأحزاب السياسية التقليدية والناشئة وحلَّ بعض منظمات المجتمع المدني. كل الجهود المبذولة لمواجهة هذه الاستراتيجية باءت بالفشل بسبب الطبيعة المُجَزَّأة للمعارضة الجزائرية ومحدودية الوعي العام.
تحدّى القمع المُكثَّف إمكانات الحراك، لكنها اعتُبِر أنه غير كافٍ في ضوء الانقسامات السياسية المتزايدة. وقد دفع هذا السلطات إلى محاولة استعادة ثقة الجمهور من خلال التلاعب والاستحواذ. لقد قامت بتفكيك “عشيرة” بوتفليقة من خلال عملية “الأيدي النظيفة” كجُزءٍ من حملة انتقائية لمكافحة الفساد ومهّدت الطريق للرئيس الجديد، عبد المجيد تبون، الذي تم انتخابه في تصويتٍ في كانون الأول (ديسمبر) 2019 بمشاركة شعبية بلغت حوالي 40٪. وجدت الإدارة الحالية أنه من الأسهل تصنيف الاحتجاجات على أنها نتاجُ مؤامرة أجنبية تُغذّي “بارانويا” الجزائريين التي كانت سائدة في فترة ما بعد الاستعمار. استجاب النشطاء بشكلٍ تفاعلي عندما واجهوا الطبيعة المرنة والتكيفية للنظام، وفي النهاية تمكنت المؤسسة السياسية من تجديد واجهتها المدنية من خلال التودّد إلى عملاء جدد داخل البرلمان المُنتَخَب والمجالس المُعَيَّنة والهيئات الرقابية. مرة أخرى، فرضت النخبة الحاكمة خطتها “للتغيير من خلال الاستمرارية”. ومع ذلك، فإن مرونة النخبة الحاكمة هي إلى حد كبير نتيجة لعجز المعارضة عن توفير بديلٍ قابل للتطبيق.
سوء حسابات المعارضة
يودُّ العديد من المتظاهرين الاعتقاد بأن النظام وحده هو المسؤول عن تجديد نفسه الناجح، لكن الواقع أكثر دقة. أَلهَمَ الوعد الديموقراطي للحراك ملايين الجزائريين، بمن فيهم عدد لا يحصى من الشباب والنساء المُهمَّشين وغير السياسيين، لكن الأمل الذي استعادوه تبدّد في النهاية. في حين أن القيود الحكومية أعاقت الحراك بالتأكيد، فإن المعارضة تتحمّل المسؤولية، سواء اعترفت بها أم لا، لافتقارها إلى الرؤية وعدم قدرتها على أن تظل قوة سياسية شفافة وسط الصراعات بين “العشائر” المُتنافسة داخل النظام الجزائري. من الأهمية بمكان تحديد هذه الأخطاء والتعلّم منها تحسّبًا للاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية أو السياسية في المستقبل.
استمدّت حركة الاحتجاج قوّتها من العفوية وعدم التجانس والشمولية. أدّت المظالم المشتركة إلى استياءٍ شعبي واسع النطاق، وكانت محاولة بوتفليقة للترشح لولاية خامسة بمثابة القشّة الأخيرة. غير أن البؤس الذي وحّد الجزائريين لم ينتج عنه انسجامٌ اجتماعي سياسي دائم. ربما شكّل المتظاهرون جبهةً مُشتركة ضد بوتفليقة، لكنهم اختلفوا حول كل شيء آخر تقريبًا. سرعان ما أصبح افتقار الحركة للقيادة المرئية عبئًا إستراتيجيًا من خلال تقديم انقسامات إيديولوجية عميقة. بالإضافة إلى ذلك، قوّض تباين خرائط الطريق والمبادرات التي اتبعتها المعارضة التقليدية قدرتها على تشكيل جبهة متماسكة. الأغلبية الصامتة التي أيدت الحراك انسحبت من الشوارع لأن نُخَبَ المعارضة فشلت في تولي قيادة الحركة. بمجرّد أن بدأ الناس يشعرون بأنهم عالقون في وسط معركة على النفوذ بين النخبة الحاكمة، تراجعوا مُفَضِّلين أمن الوضع الراهن.
زعزعت حركة الاحتجاج مؤقتًا توازن مؤسسة سياسية بحاجة ماسة إلى الإصلاح. كان اعتقال مسؤولين عسكريين مُقرَّبين من قايد صالح، مثل واسيني بوعزة وجيرميت بونويرة، غير مسبوق. كان الهدف من هذا التطهير هو إعادة تأهيل مسؤول المخابرات الجزائرية السابق محمد مدين وشبكاته، التي كانت تدير في السابق إدارة المخابرات والأمن ذات النفوذ، على حساب الحركة الاحتجاجية. مثل هذه الصراعات على السلطة ليست مفاجئة، لكن انخراط المعارضة في هذا الصدام كان “الخطيئة الأخيرة” للحراك. اعتبرت الأقطاب المحافظة والراديكالية داخل الحركة انقسامات النظام فرصة للضغط من أجل رواية تحريفية في ما يتعلق بالعقد الأسود في التسعينات الفائتة، وهي فترة عرفت الركود الاقتصادي والقمع العنيف للمتمردين الإسلاميين. وهذا الأمر غيَّرَ مفهوم الحركة الاحتجاجية من دعوةٍ وطنية للتغيير إلى تمرّدٍ إسلامي حصري ضد الدولة.
المستقبل المجهول
كانت حركة الاحتجاج لعام 2019 مقامرة محفوفة بالمخاطر ولكنها ضرورية. يمكن القول إن المشهد الاجتماعي السياسي في الجزائر أسوأ الآن بسبب الحراك، لكنه بدأ أيضًا عملية تغيير على عدد من المستويات. من الصعب تجاهل الدور السياسي الذي سيستمر الحراك في لعبه كمرجع رمزي للديموقراطية. والأهم من ذلك، أن شرائح المجتمع المختلفة تدخل الآن بقوة أكبر في الشؤون العامة على الرغم من القمع المنهجي. الجزائر اليوم ليست هي نفسها التي كانت عليها في عهد بوتفليقة، لكن شكلها الجديد لا يزال غامضًا وتظل ذكريات الماضي وصدماته التي لم تُحل موجودة أبدًا. بسبب التحوّلات المستمرة، من المرجح أن يستمر الجمود الحالي بين الحكومة والمعارضة حتى بداية أزمة اجتماعية واقتصادية جديدة، مما قد يشجع على الهدنة. وكبديل من ذلك، قد ينظر النظام في إطلاق دعوة للمصالحة الوطنية، على الرغم من أن ذلك قد يكون غير محتمل لأنه يجب أن يكون حقيقيًا.
على أي حال، إن المعارضة التقليدية غير فاعلة ولا يمكنها تولّي زمام القيادة لأسبابٍ هيكلية وإيديولوجية وتاريخية. من المفهوم أن يتردد الناس في احتضان المعارضة عندما تفتقر إلى مسارٍ واضح وتشبه بشكل متزايد النخبة الحاكمة الحالية. وهكذا فإن الجزائر عالقة بين مؤسسة غير مستقرة ومنقسمة داخليًا ومعارضة متواطئة ومنقسمة هي الأخرى. وهذا يمنع أي حوار جاد في المدى القصير. في الأساس، كان وصول تبون إلى السلطة نتيجة عيوب الحراك. طالما أن النشطاء يفتقرون إلى خطة متماسكة وقيادة واضحة، فإن المؤسسة السياسية ستحتفظ بالسيطرة وتبقى الفاعل الوحيد ذي الصلة والقادر في الجزائر.
- زين العابدين غبولي هو محلل سياسي وباحث دراسات عليا في جامعة غلاسكو (اسكتلندا)، حيث يركز على الشؤون الأورومتوسطية. تغطي أبحاثه الديناميكيات السياسية والأمنية في الجزائر. عمل زين العابدين سابقًا كمستشار مبتدئ في معهد الأصفري للمجتمع المدني والمواطنة. الآراء الواردة في هذه المقالة هي آراؤه الخاصة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.