إحتجاجات لبنان: الشعب يُريد سقوط المصارف

خلقت السياسات المالية في لبنان أُمّة تغرق طبقتها الوسطى في الديون، إضافة إلى دولة تتهالك جراء الديون، فمَن هو المسؤول؟

 

رياض سلامة: هتف المتظاهرون ضده

بقلم هشام صفي الدين*

لا يوجد نقصٌ في الفساد في لبنان. وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، فإن اللبنانيين هم على الأرجح الوحيدون في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذين ينعتون سياسييهم ومؤسساتهم الحكومية بالفساد الشديد.

من أصغر صفقة بيروقراطية إلى أكبر عقد حكومي، تُستنزَف مليارات الدولارات من جيوب الناس من خلال الرشوة ومن محفظة النقود العامة بواسطة السرقة والإختلاس.

لكن التركيز على الأشكال الليبرالية للفساد، كما حدّدتها منظمة الشفافية الدولية وغيرها من الجهات الدولية الفاعلة، قلّل من شأن الأزمة وجعلها مشكلة الحكم السيّئ. إن الإتهام الجاهز للفساد “المُستَشري” أو “المُتفشّي” قرّرته واقترحته مجموعات إستشارية عالمية، وردّده القادة السياسيون الغربيون، وطرحته وسائل الإعلام الغربية الرئيسة على المسؤولين الحكوميين.

مثل هذه الإتهامات تقترن بصيغة تم اختبارها لحل الأزمة: التقشّف، مزيد من الشفافية، وضع حد للزبائنية، وإصلاحات مالية جذرية.

أبعادٌ هائلة

إن مثل هذا التشخيص يتماشى بشكل جيد مع النخب في الشمال العالمي المُتلهّفة للتعبير عن أنفسها وإلقاء اللوم على نظرائها في الجنوب العالمي. كما أنه يُغرِق النقاش في مصطلحات قانونية ومالية حول سيادة القانون وسوء الإدارة المالية، مع نتائج قليلة.

لقد أصدر لبنان قانوناً ضد الإثراء غير المشروع قبل 20 عاماً، ولكنه قوّض وأضعف مكانة المُخبرين بدلاً من الجناة.

وفي الوقت نفسه، تتم مناقشة مصادر الفساد الرئيسة وغير المرئية الأخرى، مثل الديون المُزمنة، إما بشكل عابر، أو يتم الإستناد إليها لتبرير المزيد من الترياق نفسه: تدابير التقشف التي تشمل قطاعات الخدمات الإجتماعية الرئيسة، والإعانات التي تعود بالنفع على غالبية السكان.

ظاهرياً، هذه التخفيضات تدور حول إنهاء الفساد. في الواقع،إنهم يُعيدون توجيه الإنفاق الحكومي لخدمة الدين العام – أي الدفع للمُقرضين الأثرياء – وإفساح المجال لاستثمارات أجنبية مُربحة.

في لبنان، وصل الفساد الناجم عن الديون إلى أبعاد هائلة، مع عواقب وخيمة على الدولة والمجتمع على السواء. إن الدين هو المصدر الرئيس للإثراء القانوني. وقد أصبح لبنان ثالث أكبر دولة مُدينة في العالم، حيث بلغ الدين العام 80 مليار دولار في العام 2018 – أي ما يعادل 151٪ من إجمالي الناتج المحلي.

إن فهم بنية هذا الدين، بما في ذلك نسبة الدين الداخلي إلى الدين الخارجي، هو أمرٌ أساس لفهم الأزمة الإجتماعية والإقتصادية الحالية التي امتدت إلى الشوارع. كما أنه يساعد على تحديد اللوم على المكان الصحيح، وإيجاد السُبُل التي من شأنها محاسبة المسؤولين، مع تقليل الثمن الذي يدفعه ضحاياهم إلى الحد الأدنى.

مُصادَرة الثروة

إن الدين العام كوسيلة لإفساد الإدارات الحكومية، وتجنّب فرض الضرائب على الأغنياء، واستنزاف الأموال العامة، ومصادرة ثروات الدول الأخرى، هي ممارسة عمرها قرون. كان الإستعمار بالإقراض شائعاً في القرن التاسع عشر، عندما غزت القوى الإمبريالية مثل بريطانيا دولاً مثل مصر بعد فشل الأخيرة في سداد ديونها.

في القرن العشرين، إضطلعت المؤسسات المالية الدولية بدور رائد في فرض شروط التقشف على بلدان الجنوب العالمي مقابل الحصول على قروض.

واتّبَعت هذه الشروط منطقاً أساساً: خفض الإنفاق الحكومي من أجل الإستمرار في خدمة الديون، وخلق بيئة مالية مُلائمة ومُستقرّة للإستثمارات الأجنبية. وقد تؤدي مدفوعات الديون الباهظة إلى تقليل الإستثمار العام، والإضطرابات الإجتماعية، وتراجع التنمية وزيادة التعرّض للتدخل الأجنبي.

كما يشير مايكل فخري بحق، إلى أن المُقرضين الدوليين يتحمّلون مسؤولية أزمة كرة الثلج في لبنان، ويحتاج لبنان إلى تحرير نفسه من قبضة التقشّف المفروض.

لكن هذه ليست سوى نصف الصورة: تاريخ الدين اللبناني غير شائع بين دول الجنوب العالمي. إن أكثر من نصف إجمالي الديون اللبنانية هي ديون داخلية – مملوكة للبنوك الخاصة المحلية – وهي مُكوّنة من الليرة اللبنانية ومن العملة الأجنبية، الدولار.

في فترة ما بعد الحرب الأهلية، إعتمد رئيس الوزراء رفيق الحريري في الغالب على الدين المحلي لتمويل الطفرات العقارية غير المنتجة والبنية التحتية. وقد نما الدين السيادي بأسرع وتيرة بين العامين 1993 و1998.

في مطلع القرن الواحد والعشرين، تحوّلت الحكومة إلى الأسواق الدولية وبدأت الإقتراض بالدولار (سندات اليورو) تحت الرعاية السياسية لباريس. وأدّى ذلك إلى خلق الميزة الثانية والخطيرة للدين العام في لبنان: جزء كبير منه مُقوَّمٌ بعملة أجنبية. إذا انخفضت قيمة العملة المحلية، فسترتفع تكلفة الجزء المقوّم بالدولار بشكل كبير.

تحمّل الفرق

الدين الداخلي عنى، كما أفادت التقارير، أن البنوك المحلية قد جرفت عشرات المليارات من الدولارات من الأرباح، وذلك بفضل أسعار الفائدة السخيّة التي يُقدّمها البنك المركزي على إعادة تدوير الديون الحكومية. كما تم دعمها من قبل مصرف لبنان لتسهيل القروض الشخصية، بما فيها قروض الإسكان والمستهلكين.

من جهتها إقترضت البنوك الخاصة من البنك المركزي أموالاً رخيصة وأقرضتها للناس العاديين بمعدل أعلى، مما أدّى إلى الفرق في إظهار القليل من الإستثمارات الإنتاجية.

لقد اقترض أكثر من 700,000 شخص أكثر من 20 مليار دولار، أكثر من نصفها يُمثل قروضاً سكنية لحوالي 130,000 عائلة غير قادرة على العثور على إيجارات ميسورة التكلفة. وقد خلق هذا الأمر أمّة من طبقة متوسطة مُدينة، إضافة إلى دولة مُثقَلة بالديون.

طالما أن البنك المركزي كان قادراً على جذب الدولارات لتمويل هذه المخططات، فإن عجلة الديون كانت تدور. تقليدياً، كانت هذه المصادر: السياحة، وتحويلات المغتربين، ورؤوس المال المشبوهة الساعية إلى ارتفاع أسعار الفائدة والمحمية بقوانين السرية المصرفية. وقد جفّت جميع المصادر الثلاثة في السنوات القليلة الماضية.

سعت العقوبات المالية الأميركية إلى استنزاف أموال المقاومة المُسلّحة ضد إسرائيل، والضغط الإقتصادي في الخليج وغرب إفريقيا قلّل من التحويلات المالية، وأدّى التعدّي الخاص على الشواطئ العامة ومناطق الجذب الأخرى إلى دفع السياح المُحتملين إلى الذهاب إلى البلدان المجاورة.

مع عدم وجود قطاع تصدير مُنتِج لتوليد العملات الأجنبية، فقد تحوّلت النخبة المشاركة في السلطة إلى شريان الحياة الأخير: الإقراض الدولي.

كان مؤتمر “سيدر” (CEDRE) الذي انعقد في باريس في نيسان (إبريل) 2018 أحدث محاولة لإعادة تمويل ديون لبنان وتحويل تكوينها بشكل أكبر نحو الدين الخارجي وليس الدين الداخلي. تعهدت البلدان والجهات المانحة الدولية بتقديم ما يقدر بنحو 11 مليار دولار في شكل قروض مقابل الإصلاح التقشفي القديم نفسه: تقليل الإنفاق الحكومي.

كانت الضريبة على “الواتساب” (WhatApp) واحدة من العديد من التدابير لإيجاد مصادر بديلة للنقود، بخلاف تخفيض الديون. وبسببها بدأت الإحتجاجات.

حتى بعد اندلاع الإحتجاجات الجماهيرية، حاولت الحكومة، المستقيلة الآن، تمرير توصيات “سيدر” بذريعة الإصلاح، على أمل الحصول على الأموال المطلوبة بشدّة. تم أيضاً تضمين إقتراحات لزيادة الضرائب على أرباح البنوك، لكنها كانت قليلة جداً ومتأخرة جداً.

إن انهيار الثقة في قدرة الدولة على سداد ديونها تَتَرجَمَ إلى أزمة عملة. إن التركيبة المختلطة للديون تجعل الخيارات صعبة: خفض الدين الداخلي يعني تدخّلاً أجنبياً أقل ويتطلب قراراً حكومياً بسيطاً، لكنه ينطوي على مخاطر أكبر بالنسبة إلى آلاف اللبنانيين الذين استُخدِمَت ودائعهم بشكل مُتهوّر لتمويل الدين الحكومي.

من الصعب تنفيذ خفض الدين الخارجي من دون موافقة دولية، ولكن من المرجح أن يخفض التكاليف للسكان في لبنان.

خطر الإنهيار

من المرجح أن يؤدي كلا الخيارين، أو مزيج من الإثنين، إلى تخفيض قيمة الليرة اللبنانية، التي تم ربطها بالدولار منذ ربع قرن. إن تخفيض قيمة العملة بشكل مفاجئ سيؤثر على غالبية الأشخاص الذين يكسبون ويدّخرون بالليرة اللبنانية.

لتجنّب حدوث انهيار وطني، بدأت البنوك بالفعل في تطبيق ضوابط غير رسمية على رأس المال إما من طريق إيقاف عمليات السحب أو تثبيطها على أساس كل حالة على حدة. ليس من الواضح ما إذا كانت هذه القيود تنطبق على المودعين الكبار والطبقة السياسية القوية.

وبسبب الأزمة الإقتصادية، تعرض حاكم مصرف لبنان المركزي، رياض سلامة، لهجمات وانتقادات، حيث هتف المتظاهرون ضده في الساحات العامة.

كما شعرت البنوك الخاصة بالوطأة: بعد أسبوعين من الإنتفاضة، اقتحم بعض الناشطين الشباب جمعية المصارف في وسط بيروت. لقد احتجوا على أن الجمعية كانت حزب الأغنياء الذين يسعون إلى استغلال الفقراء.

أقفلوا على أنفسهم في الداخل وأصدروا قائمة بالطلبات، بما في ذلك استرداد الأرباح الباهظة التي تجنيها البنوك الخاصة من الدين العام، وتغيير منح قروض الإسكان إلى الليرة اللبنانية بدلاً من الدولار من دون رفع أسعار الفائدة، وحظر استخدام الدولار بدل الليرة اللبنانية في السوق المحلية.

بعد فترة وجيزة، إحتجزتهم قوات الأمن، لكن تم إطلاق سراحهم لاحقاً تحت ضغط من زملائهم الناشطين.

هذه الإجراءات مهمة ولكنها بعيدة من الوصول إلى نقطة التحوّل أو النقطة الحرجة. إن التحالف بين اللوبي المصرفي والبنك المركزي، لم ينهَر ولم تُطَح أسسه الإيديولوجية الليبرالية. في منطق الإحتجاج، قد يكون سقوط سلطة المصارف ضرورياً لسقوط النظام.

  • هشام صفي الدين محاضر في تاريخ الشرق الأوسط الحديث بجامعة كينغز كوليدج في لندن. وهو مؤلف كتاب “الأعمال المصرفية في الدولة: المؤسسات المالية في لبنان” (مطبعة جامعة ستانفورد، 2019). الآراء المُعبَّر عنها في هذا المقال تخص المؤلف ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية ل”أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى